فضل الله محمد.. الطبعة الأخيرة
سيسيل مدادٌ كثير على أستاذنا الكبير الراحل فضل الله محمد، ولن تجف المآقي ويزوي حرف، أمام هذا الخطب الجلل الذي ألمّ بالصحافة السودانية وصحفييها، فمثله طيفٌ نادرٌ مرّ على حياتنا مُهفهَف الجنان، مُخضوْضِر الروح، كأنك تسمع تصفاق جناحيه اللطيفين في سماء بعيد، ولو لم تتعلم الأجيال الصحفية التي نهلت من منبعه إلا تلك المُثابرة العميقة والدراية المُحكمة بالمهنة والتمسّك بأسمى أخلاقها وأعرافها لكفى… فهو وحده كان عالَماً فسيحاً لمُرتاد، وبيدراً مُترعاً لمُقتطِف، وبحراً عذباً لوارِد، كل من اقترب منه وتعلّم على يديه وجد فيه تلك الهالة العظيمة من الأبوة المعرفية والصبر الدافِق وحكمة من ينظر مُدقّقاً في الحال والمآل قبل المقال ..
لم تجتمع عند رجل في زماننا هذا منذ أن وهب فضل الله نفسه للحياة العامة، تجتمع عنده روح الشاعر الأديب بكل ما تحمله من معاني وظلال وألوان فضاء الشعر الزاهية، وبين واقعية الصحافة ومنطقها مقيدة بضوابطها الصارمة ومُسيَّجة بأحكامها المهنية الصلدة، ومَحميّة بنظرة دارس القانون الذي يعلم مكمن المزالق وموضع الزلل ومخابئ المكاره، وتجتمع لديه المعلومة من أفواه صُنّاعها ومظانها ومصادرها، وتنساب علاقاته ووده الطلق اللطيف مع الجميع دون استثناء في إهاب من الاحترام مضيء وثوب من التواضع وضيء …
مذ لمع نجمه في الحياة العامة قبل نصف قرن ويزيد في أيام الدراسة الجامعية وقبلها ، وتفجّر ينبوع شاعريته وغنائيته الأدبية الملهمة، هو ذاته لم يتبدّل ولم يتغيّر، ظل في الواجهة طافياً فوق تلاطُم أمواج السياسية والفكر والأدب وبين تيارات مُتناحرة، لم تُغيّره الأيام ولا صروفها، عصياً على التلوُّن لم يتغيّر من طبعه شيء كمعدن نفيس وذهب مُجمَّر، صنعت له الصحافة مجرى آخر لنهر حياته النمير، الشعر أعطاه حب الجميع وعبّر به عن لواعج ومشاعر الجميع، والصحافة وهبها فكره وعقله فربح بها احترام الحميع وحاز مكاناً لدى الحميع، يختلفون في كل شيء إلا عليه هو فهم مجمعون ..
عرفته شاعراً وكاتباً وصحفياً من بعيد في بواكير العمر نقرأ له ونطرب للأغنيات القلائد التي صاغها وجداً و شعراً، ولما كبرنا والتقيناه في درب المهنة زادت صوته التماعاً وملأت رحب الأفق أمامنا، كلما تتعرف عليه اقتراباً، تجد فيه أبعاداً وجوانب شديدة الضياء قلّ أن تجدها عند إنسان، لم يجرح أحداً يوماً بحديث، ولم يسيء بقلمه لجهة أو لشخص، ولم يخُض في لغو، ولم يشتط في رأي ،ولم يؤذِ من آذاه أو ينتقم يوماً لنفسه أو ينتصر لها ، دائماً بهدوئه المهيب يقدم نُصحاً راقياً ويدلف دفئاً في كل قلب .. وقد تميّز بقُدراته الصحفية الهائلة وطريقته الفذة في الإدارة المَرِنة المُنتجة، وبالرصيد الوافِر من المعلومات التي تتجمّع لديه وعلاقاته الأفقية والرأسية بالطيف السياسي والاجتماعي، عندما تحسبه بعيداً عن الأحداث وخفايا ما يجري، تجده مُطّلعاً على كل صغيرة وكبيرة كأنه مغنطيس تتجمع عنده الوقائع والحيثيات والأسرار والأخبار والحكايات والأقاصيص الصغيرة والكبيرة والمثيرة والخطيرة، لا يدّعي ولا يتباهى ولا يناقش كما الطاؤوس كما يفعل بعض أدعياء المعلومات وفقاقيع الصحافة.. وما أجلّ شيمة التواضع عند هؤلاء العمالقة ..
زادت علاقتي به تواصُلاً وتعلُّماً منه، عندما انتخبه الوسط الصحفي ونحن معه في انتخابات اتحاد الصحفيين ٢٠١٤ ليكون ممثلاً للصحفيين ضمن ثمانية يتم ترشيحهم للمجلس القومي الصحافة، وكان لي شرف كبير أن أكون من رشحته لرئاسة المجلس في أول اجتماع بعد تكوينه، وكان محل إجماع كل الأعضاء بلا منافس رغم محاولته المستميتة الاعتذار والتملّص من الرئاسة التي قال لي عقب الاجتماع (الرئاسات حرفة لا أجيدها ولا أطيقها)، عملنا معه خلال دورة المجلس من ٢٠١٤ حتى نهايتها قبل أشهر، تعلّمنا منه ما كان يحتاج منا لسنوات طويلة لتعلُّمه، أبرزها الحكمة والتأنّي والتريّث قبل إصدار الأحكام، والتحقّق والتدقيق قبل إبداء أي رأي يفصل به في أمر، وفتح القلب والباب لجميع الناس وتحمَّلهم بالبِشر والترحاب والحب، كان مخزناً من أسرار ومرويات وقصص لا تنتهي، يختزن في صدره أسراراً بين زمنين من أزمنة السياسة عاشها بتفاصيلها وخباياها وعرف شخوصها وأبطالها وصُنّاعها وضحاياها …
رحم الله الأستاذ فضل الله محمد، الذي بوفاته أُسِدل الستار على نُسخةٍ لا تتكرّر من صحائف زماننا المُر، وطُوِيت صفحات من حياة من يقرأ فيها لا ينتهي ولا يَمل، فهذه الطبعة النادرة الأخيرة ستظل خالدة …