الحكومةُ وأثقال الموازنة!..
تقِف الحكومة أمام مفترق طرق في موضوع الموازنة للعام المالي ٢٠٢٠م، وطبقاً للمباحثات التي جرت خلال الأسابيع الماضية مع وفد من خبراء البنك الدولي، وما استطلعته وزارة المالية الاتحادية من آراء عديد الخبراء الاقتصاديين، فليس هناك من خيار مُتاح الآن سوى تلبية شروط البنك وصندوق النقد الدوليين، وما تقتضيه الضرورة بإجراء إصلاحات هيكلية كلية في الاقتصاد بتحرير سعر الصرف (تعويم الجنيه)، ورفع الدعم عن السلع الضرورية مثل الوقود والخبز والكهرباء، وهنا تضع الحكومة أقدامها في مفترق الطرق، إما أن تُلّبي الشروط وتتعامل مع الواقع والعلاج المُر، أو تُراعي الاعتبارات السياسية والخوف من رد فعل الشارع وتُبقي على الدعم وتتحمل لوحدها أعباءه وما يترتّب عليه .
ولا يختلف اثنان أن موقف الحكومة مُضطرب للغاية وتُواجِه عدة تيارات ضغط هائلة قد تعصف بها، فقوى الحرية والتغيير التي وُلدت الحكومة من رَحمها، تُعارِض أي اتجاه لرفع الدعم ولديها تحفّظات على مشروع الموازنة، وقدّم مكتبها الاقتصادي مسودة موازية، ثم أردفت ذلك بورقة فيها ملاحظات ومقترحات بعضها يمكن تفهّمه وقبوله، وبعضها شحنة عاطفية من نثار اليوتوبيا السياسية، مثل مقترح سد العجز عبر حملة شعبية تستنهض الشعب للتبرع لدعم الخزينة العامة، ودعوة المغتربين لدفع وديعة تُودَع في بنك السودان، وهذا لعمرك تفكير فيه تبسيط لأزمة الاقتصاد ومُحاكاة لما تمّ في مصر في عهد السيسي عندما لجأ إلى فكرة مُشابهة، لكنه كان في وضع مالي مريح بوجود دعم خليجي ضخم واستثمارات كبيرة وودائع مُقدّرة بالإضافة إلى اتفاق على قروض من البنك الدولي وتعامُلات تفضيلية من صندوق النقد الدولي .
مشكلة الاقتصاد السوداني مشكلة مُركّبة، لا يمكن استنباط حلولها بهذه السهولة والتبسيط، فكل القطاعات الاقتصادية الحيوية مُعطّلة وخارج دائرة الإنتاج بالصورة المطلوبة مثل القطاع الزراعي والثروة الحيوانية والقطاع الصناعي والخدمي والنقل والبنى التحتية والمصارف، فضلاً عن حركة الاستثمار الداخلي واستجلاب وجذب الاستثمار الخارجي .
لو أرادت الحكومة التي قد تَحسِم اليوم الخميس في اجتماع مجلس الوزراء مصير الموازنة وتجيزها، المضي قدماً في مسائل رفع الدعم وتحرير سعر الصرف، يتوجّب عليها البحث فوراً عن تدابير سياسية وأمنية لما ينطوي عليه مثل هذا القرار الخطير من تداعيات، فالرأي العام بطبيعة الحال غير مُهيّأ تماماً، ولن يتحمّل على الإطلاق الارتفاع الهائل والمخبول لأسعار كل السلع والخدمات، وستصبح الحياة لا تُطاق على الإطلاق، وسينفجر الشارعُ بلا هوادة، ولن تجِد الحكومة مؤيداً واحداً في صفّها، فالحساب الدقيق لما سيُصاحِب هذه الخطوة وإن كانت صحيحة من الناحية الاقتصادية، هو ما ينبغي أن تضعه الحكومة أمام أعينها، ومَردّ هذا القول إن الحكومة نفسها غارقة في توتّر واضطراب ناتج من تباعُد الخطى بينها وبين حاضنتها السياسية، وهنا مكمن الخطر .
الشيء الأهم الذي سيزيد الشارع اشتعالاً هو الحلول المقابلة لرفع الدعم، فهي حلول غير منطقية ولا موضوعية مثل الدعم المُباشر وزيادة المرتبات، فإذا أم ينخفض حجم التضخّم ويتوقف الانفلات في السوق، ستبتلع الثقوبُ السوداءُ في فضاء الأسعار كل الزيادات في المرتبات مهما كانت، وأي دعم آخر لا يُعرَف حتى الآن كيف سيُوزّع وما هي معاييره وآليات ضبطه..؟
لا نُريد في ظل هذا المأزق الحرِج جداً أن نتنبّأ بشيء دون أن تتضح صورته الكاملة، لكن ما نستطيع قوله إن الحكومة أمام خيارات ضئيلة للغاية وبلا أفق للحل، وكما قُلنا من قبل، إن السياسيين ونُشطاء الحرية والتغيير منذ أبريل الماضي رفعوا سقف الطموحات للمواطنين، ومَنّوا عامة الشعب برفاهٍ ورخاءٍ اقتصاديٍّ لم يملكوا حتى مفاتيح دربه أو خيوطه… فما الذي سيُقدّمه السياسيون وقيادات الحرية والتغيير لموازنة السيد وزير المالية كعب أخيل الحكومة…؟