مركز الإنصاف: المحكمة الدستورية تخالف الاتفاقيات والمواثيق الدولية والوثيقة الدستورية
رأي الشرع: لا خلاف بين أهل العلم على أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون.
قانوني: التعارض في التشريعات قاد لظهور خلافات فقهية ليست لها مبررات .
تحقيق: منى النور
عباس وفضل المولى ومدثر.. ثلاثة أطفال تلطخت أيديهم بالدماء قبل بلوغهم سن المسئولية الجنائية التي اتفقت عليها كل المواثيق الدولية والإقليمية والوطنية بثمانية عشر عاماً، ولكن وفقاً للقانون الجنائي لعام 1991 يعتبر كل من بلغ الخمسة عشر عاماً مسئولاً جنائياً بثبوت علامات البلوغ، هذا التضارب في التشريعات والقوانين قاد لانقسام واضح داخل المنصة العدلية، فجعل هولاء الأطفال بين ليلة وضحاها مجرمين مكبلين بالقيود لسنوات ينتظر أن يقام عليهم الحد في أي لحظة .
موعد مع القدر:
الطفل (عباس) من مواليد رفاعة الابن البكر لوالديه، كان له موعد مع القدر الذي غير كل مجريات حياة أسرته نتيجة لشجار حول كرة القدم قام على إثره بتسديد طعنة لرفيقه تسببت في وفاته في الحال، تحدث لنا والده عن المعاناة التي ظلت تتجرعها أسرته طوال الست سنوات التي قضاها ابنه بالسجون، ليقول: كنت مغترباً بإحدى الدول العربية لحظة الحادث، فقررت العودة مسرعا لأرض الوطن عقب اتصال من زوجتي تخبرني بما جرى.
ويعود بذاكرته للوراء ليقول: عندما ارتكاب ابني الحادثة كان يبلغ من العمر خمسة عشراً عاماً، واليوم يبلغ قرابة العشرين عاماً ضاع خلالها حصاد الغربة في سبيل تحقيق العدالة، مضيفاً بأن زوجته تدهورت حالتها النفسية ووصل الأمر لتلقيها العلاج عند أحد المعالجين النفسيين وتطلب بصورة دائمه إحضار ابنها لها.
ويضيف والده عباس أن ابنه أيضًا تعرض لهزة نفسية قاسية منذ الحادثة، وقد تم العثور عليه بسقف المنزل بعد الحادث، ولكن بعد إيداعه دور الإصلاح استقرت حالته النفسية، وتحصل على شهادة فنية في كهربة السيارات ،لافتاً إلى أنه عقب رفض المحكمة الدستورية للطعن وتحويله لسجن ود مدني مع النزلاء الكبار تدهورت حالته وبات يفكر كثييرا في الانتحار، الأمر الذي بات يقض مضاجعنا .
غياب العدل:
ولم تختلف حيثيات قضية الطفل (فضل المولى) عن عباس، فهو من مواليد منطقة المناقل 1996 كان بالصف السادس لحظة ارتكاب الجريمة بمعنى لم يتجاوز عمره الخامسة عشرة، وبحسب حديث والده، فقد خرج عقب عودته من المدرسة للعب مع رفقائه ونتيجة لبعض المناوشات الطفولية قام بتسديد طعنة لصديقه، تسببت في مقتله، وقال: كنت بالعمل وتم إخطاري هاتفياً، وعدت سريعاً ولكنني صدمت بردود الأفعال، فقد تم طرد أسرتي وتحطيم منزلي بالكامل ومنعت من دخول القرية منذ تلك اللحظة، كما فصلت عن العمل للغياب، واليوم أسرتي مشردة في إحد قرى الجزيرة لا حول ولا قوة لهم لا مأوى ولا عمل نتيجة لجنوح طفلي وغياب الحكم العادل.
أصدقاء السوء:
فيما لم يستطع الريح إخفاء قلقه على فلذة كبده الذي ظل يتنقل من سجن لآخر منذ حوالي ثماني سنوات، ويروي عمو الريح أن أصدقاء السوء كان لهم دور كبير في حدوث المشكلة، فابنه (مدثر) تربطه صلة قرابة وصداقة مع المجنى عليه كانت محل احترام من الجميع، وقال الريح: عقب الإصابة قمت بتسليم ابني للشرطة بنفسى بغرض إحضار أورنيك (8) لمعالجة المرحوم، ونسبة لعدم وجود المتحري في تلك اللحظات وإصرار أفراد الشرطة الموجودين على التحفظ علينا تدهورت حالة المصاب لتأخر إسعافه، مضيفاً بأن والد الطفل تقبل قضاء الله في اللحظات الأولى، وقد ظللت معهم حتى مواراة الجثمان، ولكن في اليوم الثاني انقلب الأمر تماماً ورفض أهله مقابلتنا بل تم طردي من العزاء وتحريك الإجراءات القانونية، وهو اليوم بسجن ود مدني ينتظر رحمة الله بعد أن وصلت القضية إلى المحكمة الدستورية.
مخالفة القوانين:
ولمعرفة حيثيات القضية والجوانب القانونية، تحدث لنا المحامي طه فضل الله من مركز الإنصاف للمحاماة، والذي تكفل بالدفاع عن هولاء الأطفال ليقول إن الرابط بين هولاء الأطفال أن أعمارهم كانت تقل عن الثامنة عشرة لحظة ارتكاب الجريمة، ويواجهون اليوم خطر تنفيذ عقوبة الإعدام عليهم في أي وقت، وأرجع ذلك لشطب المحكمة الدستورية الطعون المقدمة من ذويهم ورفض طلب المراجعة الدستورية.
واعتبر طه تلك الاحكام مخالفة للقوانين النافذة التي تجرم توقيع الإعدام على من تقل أعمارهم عن الثامنة عشرة وتخالف الاتفاقيات والمواثيق الدولية والإقليمية والوثيقة الدستورية والمنشور القضائي الصادر من رئيس القضاء بالإضافة لمخالفتها السوابق الدستورية الصادرة من ذات المحكمة، معبراً عن قلقه من الوضع الذي وصفه بالشاذ، وتوقع أن يفتح الباب للمزيد من الانتهاكات على حقوق الإنسان، عموماً والطفل خاصة والتي تتم خارج إطار القانون بوضعية مزاجية، ويضيف: على الرغم من وضوح النصوص، إلا أن هناك بعض القضاة يعتبرون قانون الطفل بضاعة غربية ويصرون على تطبيق القانون الجنائي لعام 1991 الذي يسمح بإعدام الطفل حتى في سن الخامسة عشرة عاماً، حيث أنه يعتمد على معيار البلوغ بدلاً عن سن الثامنة عشرة، ويعتبر الشخص بالغاً بالعلامات الطبيعية.
ويرى طه أن نصوص القانون الجنائي أضحت في حكم العدم منذ ميلاد قانون الطفل 2010، مضيفاً بأن غياب المحاكمة العادلة يعد انتهاكاً جسيماً لحقوق الأطفال وأن المحكمة الدستورية تقاعست في القيام بواجبها بصورة واضحة مؤخراً.
وضع شاذ:
وحول خطورة الإعدام يقول إنها تكمن في إمكانية تراجع البلاد إلى قائمة الدول الخمس التي تعدم الأطفال، ووصف الوضع بالشاذ، وقال: القانون يمنع، ولكن هناك تطبيق أشبه بالمزاجي من بعض القضاة، فكل محكمة يمكن أن تحكم لوحدها في إشارة للمحكمة الدستورية، مضيفاً بأن عدم اعتراف المحكمة الدستورية بالوثيقة الدستورية وقانون الطفل أسهم في خروج مجموعتين بالمحكمة الدستورية للسطح، مجموعة تعمل على الحكم بإعدام ومجموعة، تناهض الحكم، لافتاً لوجود أطفال محكومين بالإعدام يتجاوزعددهم الستين طفلآ بعضهم ليس لديه محامٍ لدفاع عنه.
وطالب طه بضرورة حل المحكمة الدستورية لعدم أهليتها وتدخل المجلس العسكري لإيقاف الحكم على هولاء الأطفال الأبرياء وتشكيل دائرة خاصة بالطفل، وأن لا يكون للقانون الجنائي علاقة بحكم الأطفال، وعمل تدابير خاصة بهم تتمثل في دور الإصلاح وغيرها.
خلافات فقهية:
القانوني الضليع، د. عادل عبد الغني وضعنا على طاولته خلاف المحكمة الدستورية حول سن المسئولية الجنائية فأرجعها بحسب حديثه لـ(الصيحة) لخلافات شخصية وقضائية، وزاد بالقول إن القانون الجنائي أتخذ معيار البلوغ كأساس للمسئولية الجنائية، في حين أن قانون الطفل اتخذ عمر الثامنة عشرة أساساً للمسئولية الجنائية مؤكداً أن هذا التعارض قاد لحدوث انقسام من الناحية التشريعية، وخرجت خلافات فقهية للسطح لينتقل لخلاف في آراء وأحكام المحاكم، مضيفاً بأن هناك نظرية قانونية تقول بأن (الخاص يقيد العام) وقانون الطفل خاص وبالتالي يقيد في أحكامه القانون الجنائي لعام 1991 بمعنى آخر أن يحسم الأمر لصالح أن العمر هو أساس المسئولية الاجتماعية الجنائية.
ويرى د. عادل أن المتشددين الذين يعتقدون خطأ أن معيار البلوغ هو المعيار الحقيقي للمسئولية الجنائية يتمسكون بهذا الرأي، مضيفآ بأن هذا التشدد لا مبرر له، وأرجع ذلك لأسباب شرعية وعقلية وعلمية، فشرعاً لم يرد في القرآن أو السنة ما يفيد بأن معيار البلوغ هو أساس المسئولية الجنائية، كذلك عقلاً ومنطقاً قد يتفاوت الناس في نضجهم العقلي، مؤكداً أن هذا أيضاً يجب أن لا يقيد بأي مظهر عضوي أو جسدي، أما علمياً ليست هناك علاقة بين اكتمال الأجهزة التناسلية والنضج العقلي واكتمال الفكر، مضيفاً بأن البلوغ مظهر بايلوجي يرتبط بالنشاط الجنسي، وليس دليلاً على بلوغ النضج الفكري لتقدير الأشياء وتحمل المسؤولية، لذا اتجه العالم لتقدير عمر الثامنة عشرة أساساً للمسئولية الجنائية، وقال: حتى الذين يميلون لهذا المعيار قاموا بتحديد عمر الخامسة عشرة عاماً كحد أدنى، مؤكداً أن هذا خير دليل على إقرارهم بأن البلوغ ليس معياراً للنضوج، فالطفل الجانح في القانون هو الذي يرتكب جريمة قبل بلوغه سن المسئولية الاجتماعية، لافتاً لعدد من تدابير الرعاية والأصلاح ابتداء من القبض عليه، حيث لا يجب القبض والتحفظ عليه بذات الإجراءات التي تطبق على البالغين فهناك شرطة ونيابة ومحكمة خاصة بالأطفال، كما أنه إذا ثبتت الإدانة بارتكاب الجريمة، هناك تدابير رعاية تتمثل في وضع الطفل الجانح في دور الإصلاح أو تسليمه لذويه فوراً وإيقاف أي أحكام إعدام حتى لو بالسجن في مواجهة أي طفل لم يكمل الثامنة عشرة.
تعنت قانوني:
المجلس القومي لرعاية الطفولة بصفته الذراع الحكومي أفادنا في تصريحات مقتضبة أنه على دراية كاملة بملف الأطفال، وقام برفع مذكرة لمجلس الوزراء عبر وزارة العمل والتنمية الأجتماعية، مؤكداً على أن القضية وصلت حتى المجلس السيادي، ومن المتوقع صدور قانون يمنع إعدام الأطفال قريباً.
فيما ترى الأمين العام لجمعية “إعلاميون من أجل الأطفال” إنعام الطيب أن هناك تعنتاً من قبل الجهات القانونية في تنفيذ قانون الطفل، مشيرة لوجود لوائح ومواد لم تتم إجازتها منذ سنوات، كاشفة عن وجود تعديلات على القانون الجنائي يخضع لتعديلات متنوعه تمنع إعدام الأطفال.
رأي الشرع:
رأي الشرع بحسب حديث أستاذ الفقه نادر زكي، جاء صريحاً في مسألة الإعدام، وتلى قوله تعالى (وكتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس)، وقوله تعالى (يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى الحر بالحر… )، ولكن إن كان القاتل صبياً لم يبلغ الحلم لم يقتص منه بدليل قول ابن قدامة (والطفل، والزائل العقل لا يقتلان بأحد)، مؤكداً على أن لا خلاف بين أهل العلم أنه لا قصاص على صبي ولا مجنون، وكذلك كل زائل العقل بسبب يعذر فيه مثل النائم والمغمى عليه ونحوهما، والأصل في هذا قول النبي صلي الله عليه وسلم (رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يبلغ وعن النائم حتى يستيقظ وعن المجنون حتى يفيق)، ولأن القصاص عقوبة مغلظة، فلم تجب على الصبي وزائل العقل كالحدود، لأنهم ليس لهم قصد صحيح، فهم كالقتل خطأ)، مؤكداً على أن الذي يجب على الصغير في القتل الخطأ الدية المخففة مؤجلة في ثلاث سنين، ومعنى الدية المال الذي يجب بسبب الجناية، ويؤدى إلى المجنى عليه أو وليه.