ناقَش مجلس الوزراء في جلسة له نهار أمس، مشروع الموازنة للعام ٢٠٢٠م، وهي أول موازنة للحكومة بعد أن كانت تعمل على ميزانية العام ٢٠١٩، ودون الخوض في كامل ما احتوته الموازنة الجديدة للعام المقبل التي لم تُجَز من مجلس الوزراء بعد، إلا أن حديث الناس والمجالس وما يشغل الرأي العام هو اعتزام الحكومة رفع الدعم عن السلع الضرورية خاصة الوقود، وسبق أن طرحت مقدمات لتهيئة الشارع وعامة المواطنين لهذه الخطوة ذات الكلفة العالية، فبينما كانت إدارات وزارة المالية كجهة فنية تتناول الخيارات المختلفة لرفع الدعم، كانت قوى الحرية والتغيير تؤكد غير ذلك، في سعي للتغبيش السياسي والمُحاذرة من غضبة الجماهير، وتأرجحت تصريحات وزير المالية ما بين النكران والتلميح، حتى قطعت جهيزة قول كل خطيب، وأعلنت الحكومة عن ما ليس منه بُدٌّ، وقرّرت رفع الدعم وأرادت تخفيفه بأنه سيتم تدريجياً للوقود واستثنت الخُبز ..
إذا كانت الخطوة المعلنة أخيراً برفع الدعم في سياق الإصلاح الهيكلي للاقتصاد ومعالجة اختلالاته واعتلاله المُزمن، فإنها تتطلب إجراءات ورؤية اقتصادية كلية جامعة تتضافر معها تدابير أخرى وسياسات شاملة تلامس كل المجالات وتقوم بها كل مؤسسات الدولة، لكن هذه الخطوة ربما تكون جيدة في هدفها، إلا أنها تأتي لمحاولة سد العجز في الموازنة وتوفير إيرادات تقابل المصروفات وتقليل العبء على الموازنة المُثقلَة بالالتزامات، ولا تصرف الحكومة عينها عن الأثر السياسي لهذا القرار، لذا جاءت به مُتدرِّجاً مُتذبذب التوقيتات، وحَزَمت فيه الرأي بطرحه على الجمهور وإقامة الندوات والحوارات المفتوحة وتنظيم الحملات الإعلامية حتى يتقبّله الناس دون ردَّات أفعالٍ مُهلِكة ..
من الناحية الاقتصادية لا يوجد اختلاف أبداً حول ضرورات رفع الدعم، وقد سعَت كل الحكومات السابقة في مختلف عهود الحكم الوطني إلى فطام المواطنين من الدعم للسلع الأساسية والضرورية، وظل الهاجس السياسي هو الغول الذي يُخيف الحكومات، ولم تَهتَد الأنظمة والحكومات السابقة إلى تصوُّرٍ أكثر مرونة ومُواءمة يجعل الطريق مُمهدّاً لرفع الدعم عن الدقيق والبنزين والجازولين والكهرباء ودعم بقية الخدمات الأخرى، فهل تستطيع الحكومة في وضعها الراهن وأرضيتها الهشة وعدم وجود أية مؤشرات بتدفّق إعانات أو مساعدات أو قروض خارجية أن تتحمّل حرور هذه القرارات الاقتصادية التي تشبه تجرُّع السمِّ طلباً للعلاج؟
لا نظن أن الحكومة تلجأ إلى هذا الخيار كما قرأنا في مشروع الموازنة بمجموعة من البدائل الموضوعية، بل هي مُضطرة إلى ذلك، ولن تفيدها عملية الدّعم المباشر وزيادة المُرتّبات لأن الدعم مهما زاد مع ارتفاع مُعدّلات التضخّم وتراجع سعر الصرف وقلة الإنتاج وزيادة ميزان المدفوعات، ستتحوّل الأوضاع إلى ما هو أسوأ، وتُصبِح الضائقة المعيشية شيئاً كالجحيم لا تُطاق، فمع أي زيادة للجازولين والبنزين وبقية المحروقات، ستزيد تلقائياً أسعار جميع السلع بإضافة كلفة الترحيل، وستزيد تعريفة الكهرباء والمياه بارتفاع تكلفة الإنتاج، وتتصاعد أسعار الضروريات والعلاج والمواصلات والنقل البري والجوي ومواد البناء والدواء، وبازدياد كلفة الإنتاج الزراعي والحيواني سيتأثّر قطاع الصادر الذي لن ينافس في الخارج، فهل ستُواجِه الحكومة ضغط الشارع وخاصة الشرائح ذات الدخل المحدود دعك عن الفقراء والذين يعيشون تحت خط الفقر؟
نحن نعلم أن الوصفات الجاهزة لصندوق النقد والبنك الدوليين، هي التي تتحكّم في مسار السياسة الاقتصادية لحكومة الفترة الانتقالية التي تُدين أطراف رئيسة منها بالولاء المُطلَق لسياسات هذه المؤسسات الرأسمالية الدولية المُمسِكة بتلابيب اقتصاديات الدول وخاصة الدول الفقيرة، لا توجد لدى هذه المؤسسات روشتات تصرفها للدول النامية التي تُواجِه صعوبات اقتصادية حادّة مثل بلادنا سوى سياسة رفع الدعم ومن ثم التكبيل بالاقتراض والديون كما يحدث لدول العالم الثالث المَهِيضة الأجنحة ..
المشكلة الكبرى أن حكومتنا بين ناريْن، تراجُع وتدهوُر الاقتصاد بشكل مريع بسبب التشوّهات المَعيبة في الاقتصاد ومنها دعم السلع والخدمات، ونار الشارِع الذي ستشتعل فيه ألسنة اللهب مع إجازة الموازنة للعام ٢٠٢٠ م ونزعت الحكومة دعمها وتضاعفت الأسعار عدة مرات .