مَواسِمُ الفُرَصِ الذّابِلة ..!
جولة التفاوُض الجارية الآن في جوبا، كانت في الأصل مع الجبهة الثورية التي تضُم الحركات المسلحة، وافترعت مسارات جديدة للشمال والشرق والوسط، ولم تكُن للشمال أو الوسط أية مطالب وصلت إلى درجة حمل السلاح أو تكوين مجموعات مُسلحة تُبرّر الجلوس معهم، لكن يبدو أن الوسيط وهو دولة جنوب السودان والطرف الحكومي قد قَبِلا بهذا التطوّرالجديد، إما سعياً لإتمام عملية سلام كاملة تشمل الجميع وتنزع ورقة الضغط من الأيدي السياسية المُتنافِسة في السودان وتدعو إلى حمل السلاح، أو تكون الرغبة جادة في تفكيك الكُتَل الصمّاء داخل الجبهة الثورية إلى الجزئيّات المُختلفة .
لكن في نهاية الأمر، ليس هناك ما يُضير، فقط على ماذا يتم التفاوض مع الأطراف الجديدة التي قد لا يكون تهميشها سياسياً أو ظلمها تنموياً وتخلفها خدمياً طوال فترات الحكم الوطني منذ الاستقلال، هو بذات المقدار الذي حدث في مناطق دارفور والشرق والنيل الأزرق وجنوب كردفان، مع التسليم أن الريف السوداني والأقاليم خارج الخرطوم كلها تعاني من نقص أو انعدام الخدمات وضمور التنمية، وهذه قضايا معلومة ولا جدال خلفها، فهل دخول أطراف أخرى سيجعلها تطرح نفس القضايا التي تُطرَح من الحركات المسلحة، خاصة مسائل الهوية وعلاقة الدين بالدولة والمطالبة بالتمييز الإيجابي في التنمية والخدمات وإزالة التهميش السياسي وتوسيع المشاركة في السلطة؟
من الجيّد أن يتناقَش كل السودانيين في قضاياهم الحقيقية، وحصر كل جهة همومها وشواغلها حتى يتم الاتفاق على عدالة تزيل المظالم وتُحسّن توظيف الموارد، ويتم وضع خِطط للتنمية المتوازِنة وتُحدّد الاحتياجات الخدمية بشكل واضح، ويحس الجميع أنهم في وطن يتساوى أبناؤه في حقوقهم وواجباتهم وتتمتع كل جهاته بقدرٍ مُتوازٍ من حظوظ التنمية الحضرية الحديثة. لكن ألا يكون ذلك من أجل الاستغلال السياسي ومحاولة استخدام اسم الجهة أو المنطقة ليصل حفنة من السياسيين إلى مرامهم وغاياتهم الشخصية ويعتلوا المنابر ويظهروا على الواجهة .
إذا كانت فكرة مُناقشة هذه القضايا في المنبر التفاوُضي بهذا الشمول الواسِع الذي ضمّ كل أطراف السودان وجهاته، فلماذا لا تذهب جميعاً القوى السياسية والاجتماعية ومنظمات المجتمع المدني الفاعلة والرموز وممثلو المجتمع وقياداته الأكاديمية والمُفكّرون والعلماء والخبراء، إلى مؤتمر جامع للتفاكر حول كل هموم البلاد وقضاياها، والخروج بقناعات ثابتة وعقد اجتماعي وتوافُق سياسي وتَراضٍ وطني يُقدّم فيه السودانُ للعالم تجربةً جديدةً في الوِفاق الوطني ووحدة الكلمة والصف دون أن تكون الدعاية السياسية هي الغالبة ..
إذا كان ذلك هو الخيار الأوفق، ففي التجربة السودانية محطات واستخلاصات تصلح أن تكون هادياً ونقطة ارتكاز يبدأ منها الحوار، فمنذ مؤتمر المائدة المستديرة في مُنتصف ستينيات القرن الماضي والاتفاقيات التي سعَت لإيقاف حرب الجنوب حتى مؤتمر الحوار الوطني، فإن فيها من الأفكار والآراء والتوصيات المجردة وما بُذِل فيها من جهد ذهني في تشخيص القضايا الكبرى وتعريفها، ما يُحفّز ويدفع بأية مبادرة جديدة لتخطو خطوات جبّارة للأمام، واليوم توجَد أمام المجلس السيادي ورئيس الوزراء السيد عبد الله حمدوك فرصة جبّارة لطرح مشروع توافُق وطني يبدأ بالحوار الصريح الشفّاف واستدعاء الحِكمة والتعقّل السوداني المعروف، والاعتراف بالقضايا الكلية، والتماس ما في دواخل السودانيين من حُبّ ووجدان سليم حتى يتحقّق سلامٌ مستدامُ ونهضةٌ شاملةٌ، دون ذلك ستدور الدائرة الجهنمية ولن تنتهي ..!