الخرطوم: مريم أبشر
الواقع عن قُرب
بثورة شعبية عارمة اجتاحت كل أنحاء السودان، مهرها الشباب بدمائهم وأرواحهم، طَوَى السودان حقبة امتدّت لثلاثة عُقُود مُتوالية لحكم الإنقاذ المخلوع، عاشت فيه البلاد جلّها في عزلة تامة بسبب عقوبات اقتصادية وأمنية نتيجة وضعه على اللائحة السوداء، وبعد تشكيل الحكومة الانتقالية ارتفعت سقوفات الطموح والتوقعات لدى الشعب السوداني بتجاوُز عقبة الحصار الاقتصادي، وتبدّل حال السودان نحو الأفضل عبر بوابة رفع اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب وفك قيود الحظر الاقتصادي، بيد أن التعقيدات التي صاحبت فرض الإجراءات، وتعقيدات مُؤسّسات صنع القرار الأمريكي، بجانب المَخَاوف التي تنتاب مُتّخذي القرار في الإدارة الأمريكية من أنّ ذيول النظام المخلوع ما زالت موجودة، فَضْلاً عن أنّ الإدارة الأمريكية رهنت الرفع بجملة من المَسَارات والمَلَفّات تركة الماضي واجبة التسوية، ومن ثَمّ وجدت الحكومة الانتقالية نفسها أمام سلسلة الفواتير واجبة السداد، باعتبار أنها ورثت تركة مُثقلة من مساوئ ومآخذ الحكم البائد!
آمالٌ مُؤجّلةٌ
بعد توافُق كل أهل السودان بقدرٍ كبيرٍ يماثل الإجماع من كل قطاعات الشعب صانع الثورة بما فيها قِوى إعلان الحرية والتغيير قائدة الحراك ومهندسة مساراته على الدكتور عبد الله حمدوك الخبير الإقليمي والدولي في الشؤون الاقتصادية لقيادة الفترة الانتقالية، لجهة أنّها الفترة الأصعب في تاريخ السودان الحديث، باعتبار أنّها تأتي بعد ثلاثين عاماً من حكم الإنقاذ القابض، وفترة شحن وتوتُّر سياسي بالغ التعقيد، وعقب أدائه للقسم، ألقى خطاباً مُتّزناً حَدّدَ فيه بعضاً من أولويات حكومته ذات الثلاثة أعوام ونصف، وقال في تلك الكلمة (نحن في شهر عسل مع العالم)، مُبدياً تفاؤلاً بأنّ حالة من الانتعاش ستكون الطابع الأبرز في علاقات الخرطوم بالعواصم الغربية على وجه الخصوص بعد قطيعةٍ طويلةٍ إبان العهد السابق جَعَلَت من السودان دولةً معزولةً.
ومَعلومٌ أنّ التحديات الاقتصادية والسياسية والأمنية، شكّلت أحد العوامل الرئيسية في تفجير الاحتجاجات الشعبية التي قَادت في نهايتها لإقدام الجيش بالاستجابة لصوت الشعب وعزل الرئيس المخلوع.
وبرأي مُراقبين، إنّ الحصار الذي كان مَفروضاً على السودان، أدّى لتفاقُم الأزمة الاقتصادية بعد أن حصرت الدول مُساعداتها على الجوانب الإنسانية والهِبَات وإعانة مُتأثِّري الحرب، لجهة أنّ اسم السودان ما زال على القائمة، وأنّ استحقاقات رفع العقوبات الاقتصادية ما زالت تصطدم بمطلوبات الورثة القديمة لنظام الإنقاذ، وكانت نقطة التركيز الأساسية لرئيس الوزراء حمدوك في كل لقاءاته التي أجراها بالخارج أو مع المسؤولين الذين زاروا السودان بعد تسلُّمه قيادة مسؤولية الحكومة التنفيذية، هي حثِّهم على العَمل مع حكومته لإقناع واشنطن بإنهاء وَضع السودان في لائحتها السوداء، باعتبار أنّ الشعب السوداني مُسامحٌ ولا علاقة له بالإرهاب، وأنّ الحكومة التي أوقعت السودان في هذا الفخ أصبحت من الماضي.
ويرى مُراقبون أنّ انعتاق السودان من عُزلته السّابقة مَربوطٌ باستعداده للتّعامُل في ملفات كانت سبباً في حصار السودان، وعلى رأسها الإرهاب وإيواء المُتطرِّفين من بلاد العالم وهذا ما أصبح مُتاحاً الآن بواقع الثورة ومَا تَمَخّض عنها من حكومة هي الوليد الشرعي لها .
أبعاد مُهمّة
السياسة الخارجية لأيِّ بلدٍ بحسب خبير دبلوماسي تحدث لـ(الصيحة)، هي انعكاسٌ لسياسته الداخلية، وبهذا المفهوم المَعلوم للكَافّة، يَتَعيّن على كل مُتأمِّلٍ في الكسب الخارجي للثورة بعد عامٍ على اندلاعها، وتسعة أشهر على نجاحها، أن يأخذ في الاعتبار ثلاثة أبعاد ذات صلة:
البُعد الأول: إنّ موضوع العلاقات الخارجية هو أحد العوامل التي أسهمت في سُقُوط النظام السابق، كونه وصل في آخر أيّامه مرحلة من الفتور والعُزلة الدولية والتّخبُّط في الوجهة، لم يبلغها السودان من قبل.
أما البعد الثاني: هو أنّ الساحة الخارجية أضحت – ولو بمفهوم المُقابلة لما كان سائداً – أكثر استعداداً وتقبُّلاً لأيِّ بديلٍ للنظام، دعك أن يكون هذا البديل نتاجاً لثورة شعبية رفعت ذات الشعارات، التي تطرب القوى الدولية لسماعها حين يأتي الحديث عن السودان، وهي شعارات “حرية.. سلام وعدالة”.
فيما يمثل البُعد الثالث مَدَى قُدرة المولود الثوري الجديد على ترجمة شعارات الثورة وتعاطُف القوى الدولية والإقليمية مع الوضع الجديد في جني مكاسب للبلاد عجز النظام السابق عن تحقيقها، ويضيف الخبير الجديد قائلاً: رغم أنه من المُبكِّر نسبياً الحديث عن نتائج واضحة ومَلموسة للحكومة المدنية التي لم يَمضِ على تشكيلها سوى أربعة أشهر، والتي أتت في أوضاعٍ مُعقّدةٍ داخلياً وخارجياً، إلا أنّ المُراقب لأدائها لا يُمكنه أن يتجاوز كونها – الحكومة المدنية – أُتيحت لها فُرص ثمينة لم تُتح لنظام حكم سوداني في وقتٍ قريبٍ، وبحسب تقييمة فإن الحصيلة تلك الفُرص مُتواضعة، ويقول: بعد شهر واحد من تشكيل حكومته أُتيحت لرئيس الوزراء وطاقمه الدبلوماسي فرصة اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبادر عدد مِمّن اعتلوا منصة الحديث فيها بالترحيب بقادة التغيير الجديد في السودان، وعلى هامش تلك الاجتماعات أجرى رئيس الوزراء وطاقمه الدبلوماسي أكثر من خمسين لقاءً مع قادة العالم، وبعد شهرٍ من عودته من نيويورك، شدّ رئيس الوزراء رحاله إلى بروكسل بدعوةٍ مُباشرةٍ من رئاسة الاتحاد الأوروبي، حيث أُتيحت له فُرصة مُخاطبة وزراء خارجية دول الاتحاد الأوروبي مُجتمعين وإجراء لقاءاتٍ نوعيةٍ على هامش تلك الزيارة التي كان قد دُعي إليها خصيصاً.
وفي نهاية شَهره الثالث، شَدّ رئيس الوزراء رحاله إلى واشنطن هذه المَرّة، حيث العُقدة أو العُقد الرئيسية في علاقات السودان الخارجية، وأجرى هناك سلسلةً من اللقاءات مع المُؤسّسات المعنية مُباشرةً بتلك العُقد وصاحبة صنع القرار في الإدارة الأمريكية، وقبلاً رافق رئيس الوزراء، رئيس مجلس السيادة في رحلتين متتاليتين إلى كل من السعودية والإمارات ومعهما وفد وزاري رفيع، فَضلاً عن استقبال رئيس الوزراء وطواقمه الدبلوماسية في الخرطوم عشرات المبعوثين الدبلوماسيين سواء في إطار العلاقات الثنائية أو المُمثلين لمُنظّمات إقليمية ودولية وتحرُّكات رفع المُواطن المضغوط دخلياً بلهيب نيران الأسواق، سقف التوقُّعات بتخفيف الضائقة الاقتصادية عليه، وأن تكون حصيلة كل هذا الجهد وتلك التحرُّكات سواء أكانت تلك الحصيلة نتائج ملموسة أو مأمولة في توقيتٍ يُمكن اعتماده والبناء عليه، وأن يُحدث هذا الزخم الداخلي والخارجي اختراقات في المَلفات التي عجز النظام السابق عن تحقيق اختراق ذي بالٍ فيها، وهي ملفات السلام الشامل وإسكات صوت البندقية بشكلٍ نهائي، وحُدُوث انفراجٍ في الوضع الاقتصادي، بحيث تتدفّق الاستثمارات والقُرُوض والمعونات وتُلغى الديون أو تتم جَدولتها وتَستقر العُملة الوطنية ويتراجع مُعدّل التضخُّم، ويترافق مع ذلك انفراجة في مجال الحُريّات العامّة والإعلامية، بحيث يتهيأ السودانيون لانتقال سلسٍ نحو تحوُّلٍ ديمقراطي حقيقي، ورغماً أن ذلك ورغم الوعود وتقبُّل العالم للسودان بوجهه الجديد، يعتبر الخبير الدبلوماسي أن الحصيلة لا تتناسب مع طموح الثورة ولا انتظارات السودانيين، وأنّه لا شئٌ يَلُوح في الأُفق القريب، ويبدو أن متاريس النظام القديم تحتاج لصبرٍ إضافي لإزالتها وإقناع العالم بأن ما حدث في السودان تغييرٌ حقيقيٌّ لسودانٍ مُختلف .
انفتاح حمدوك
دبلوماسيٌّ مُقيمٌ بإحدى الدول العربية قال لـ(الصيحة)، إنّ رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك وما يمثله من سُودانٍ جديدٍ مُنفتحٍ على المُجتمع الدولي وتوجه ديمقراطي سلمي، بجانب الاحترام لحقوق الإنسان في المواثيق والشرائع الدولية كَافّة، وجد قُبُولاً كُبيراً من رؤساء وقادة دول العالم والمُنظّمات الإقليمية والدولية، ويضيف: وقد التقطت حكومة الثورة هذا القبول لاستخدامه في ما يُحقِّق أهداف الثورة وترسخ الاستقرار والسلام وتحسين الظُروف الاقتصادية بما يُخفِّف المُعاناة عن المُواطنين الذين ذاقوا الأمرين خلال ثلاثين عاماً من حكم النظام البائد المَعروف بالتخبُّط في اتّخاذ القرارات وفي مُعاداة المُجتمع الدولي، ويقول الخبير إنّ الأشهر الثلاثة الأولى من حكومة الثورة تُؤشِّر إلى أنّ تقدُّماً جيِّداً قد تمّ إحرازه في ما يتعلّق بالانفتاح على المُجتمع الدولي ومُحاولة حلحلة مَشاكل السودان من خلال هذه العلاقة الجديدة، وقد انعكس ذلك في نتائج الزيارات التي قَامَ بها السيد رئيس الوزراء وشملت عدداً من الدول المُؤثّرة إقليمياً ودولياً، كلها مُرتبطة بصُورةٍ أو بأخرى بقضايا السودان، وبالتالي يقع على عَاتق الحكم الثوري البناء على هذه التحرُّكات والدفع بنتائجها إلى الأمام بما يخدم أهداف الثورة ويُحقِّق طُمُوحاتها، الانتقال بالسودان من مُربّع الفقر والاستجداء إلى فضاء التنمية والبناء والتّطوُّر والانطلاق نحو لعب دوره الحتمي وليس بالمنطقة فحسب، بل على الصعيدين الإقليمي والدولي، ويضيف الدبلوماسي بأنّ المائة يوم الأولى من حكومة رئيس الوزراء حمدوك سجّلت نقاطاً إيجابية في صالحه، وأيِّ يوم قادم سوف يزيد من الرصيد الإيجابي لحكومة الثورة الشعبية.
البداية الصحيحة
الجولات الكثيرة التي ابتدر بها د. حمدوك مُحاولاته لترميم ترسُّبات ثلاثين عاماً، يُرجِّح مُراقبون أن تكون انعكاساتها الإيجابية على علاقات السودان الخارجية، نظراً للزخم الكبير الذي حُظيت به، باعتبار أنّها تُشكِّل البداية الصحيحة لإصلاح العطب الدبلوماسي، والانطلاق نحو تأسيس علاقات خارجية مَبنية على التعاوُن الإيجابي والاحترام المُتبادل والعيش ضمن مُجتمعٍ دولي، تلتقي أجندته حول تطلُّعات السلام والأمن ومُحاربة الإرهاب والتبادل الاقتصادي الذي يخدم الشعوب، وعلى وجه الخُصُوص زيارة رئيس الوزراء مُؤخّراً إلى الولايات المتحدة وزيارته لفرنسا أسّست لبداية عهدٍ جديدٍ لعلاقات السودان الخارجية، بعد أن عاش عزلة طويلة رغماً عن أن الملفات مُتشابكة ومُعقّدة، غير أنّ قوة الدفع التي خلقتها الثورة كفيلةٌ بأن تُعالج كثيراً من المُشكلات التي تمر بها البلاد حالياً وعلى رأسها ملف العلاقات الخارجية، الذي انعكس سلباً على السودان في عددٍ من النواحي، منها ما يتعلّق بالجانب الاقتصادي، والبعض الآخر بالمسائل السياسية، إضَافَةً إلى القضايا الداخلية التي ترتبط حُلُولها بالتعامُل مع التعقيدات الإقليمية والدولية.
علاقات مُتوازنة
الحكومة الانتقالية ومنذ لحظة انطلاقاته، عملت على إرساء قواعد عامة لتوجُّهاتها الخارجية خلال الفترة المُقبلة، حيث وضع حمدوك ووزيرة خارجيته علاقات السودان مع الدول الشقيقة والصديقة ودول الجوار الأفريقي على رأس أولويات المرحلة، وأنّ السياسة الجديدة سَتقوم على ركيزة أساسية هي مُراعاة مصالح السودان، والحفاظ على علاقات خارجية مُتوازنة وليس من مَصلحة السودان الانحياز لمحورٍ على حسابٍ آخر وأنه لا إقصاء لأيِّ تيارٍ في الخارجية السودانية، والمعيار الأساسي للعمل هو الكَفاءة، وإزالة اسم البلاد من قائمة الدول الراعية للإرهاب من أهم ملفات الخارجية الأشهر القادمة، من أجل فتح الباب أمام نهضةٍ اقتصاديةٍ ومَشاريع جديدة في السودان، وهذا ما سعى رئيس الوزراء أن يكون أبرز الملفات التي يتناولها في كل زياراته ولقاءاته بالمسؤولين اقليمياً ودولياً .
شعار الثورة الملهم
(حرية.. سلام وعدالة) وهو الشعار الذي رفعته الثورة، حيث وجد صدىً واسعاً لدى المُجتمع الدولي المُهتم بتجسيد هذه الشعارات فى واقعه المَعاش، ويَعتقد مُحدِّثي السفير الطريفي كرمنو أنّ عدم توافر هذه القيم إبان النظام المخلوع خلق المُعاناة للمُواطنين ومن ثمّ الوصم بالإرهاب وفرص الحصار الاقتصادي، ويَضيف كرمنو لـ(الصيحة) أنّ زيارات حمدوك للدول الكُبرى المفتاحية وكبار المسؤولين الذين استقبلتهم الخرطوم بعد الثورة مثّلت انفتاحاً حقيقياً، خاصةً مُشاركة رئيس الوزراء في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة وإلقائه لخطاب السودان بعد ثلاثة عُقُود من العُزلة، فيما شكّلت زيارته الأخيرة لواشنطن والتقائه بصُنّاع القرار خَاصّةً وزير الخزانة بدايةً لعلاقاتٍ مُختلفةٍ، فَضْلاً عن تَوَافُد أصدقاء السودان من المَانحين وحِرصهم على عقد مُؤتمرهم بالخرطوم للوقوف على احتياجات السُّودان والتّرتيب لتقديم المُساعدات الفعلية له في أبريل القادم، يُؤكِّد أن العالم يُقدِّر السودان والتغيير الذي حدث فيه، والجدية التي التمسها من قِبل القائمين على الأمر لتحسين الصورة النّمطية التي رَسَمَهَا النظام السابق على السودان، فيما شكّل الترفيع الدبلوماسي بين الخرطوم وواشنطن خطوة تاريخية من شأنها تعزيز العلاقات، كَمَا غرّد بذلك وزير الخارجية الأمريكي إبان زيارة حمدوك الأخيرة لبلاده.