بهرتني صُورة عطبرة
**هذا مَقطعٌ من أغنية جميلة كلمات ولحناً وأداءً، تستهل بها مجموعة عقد الجلاد حفلاتها، وبها الكثير من القيم عن إنسان عطبرة أو أم المدائن كما يُسمُّونها.. واللوحة العظيمة التي بهرت الناس والعالم أول أمس لم تكن الأولى، فقد سبقتها لوحات، منها ما خلّده التاريخ، ومنها ما لم يُوثّق، ونحمد للإخوة في الثورة لهذه الفرصة ليعرف ما لم يكن يعرف عطبرة وإنسانها وتاريخها ومواقفها.
** عطبرة مدينة مُتفرِّدة في كل شيءٍ، وما ظهر من مواقفها جُزءٌ من التفرُّد، فهي مدينة حديثة تَمتلك شهادة ميلاد أصلية (1906م) حين اعترض نهر عطبرة حَملة المُستعمر القادمة من مصر في 1998م عن طريق مدينة وادي حلفا العظيمة الغريقة التي كَانت مركزاً للتّوغُّل، فتوقّفت الحملة لسنواتٍ تم فيها تأسيس المدينة ونقل مركزية السكة حديد لها ودعوة القبائل للعمل في المرفق المخدم الوحيد آنذاك، فكانت عطبرة بنسيجها الاجتماعي القبائلي المُنتظم تحت إدارة أهلية رائعة مثّلها المثلث الخالد للرموز الأكبر العُمدة السرور السافلاوي رمز الرباطاب، والحاج الريح السنهوري رمز الجعليبن، والشيخ إبراهيم الشوش رمز الشايقية والبديرية، ولم تظهر أيِّ خلافات من أيِّ نوعٍ، لأنّ الكل كان نسيجاً واحداً ويعمل لدى مخدمٍ واحدٍ نهاراً ويتوزّعون على الأندية والزوي جمع زاوية مساء.
** المُجتمع المُتفرِّد اهتم بأمر الوطن وحقوق العاملين، فكانت أول هبة وانتفاضة في وجه المُستعمر يعرفها أهلنا بإضراب الثلاثة وثلاثين يوماً في الثلاثينات، وهنا كان إنسان عطبرة وإنسان القرى من حولها، إذ كان يتم توفير (قُفة المُلاح) مجّاناً لآلاف العاملين، وكانت الخضروات ترد مَجّاناً من كنور وأم الطيور والعكد ودار مالي وبربر والدامر والمُقرن وما حولها، وكذلك يفعل التُّجّار والجزّارون وحتى الحلاقين كما حكى لي والدي كانت الحلاقة مَجّاناً، أليس هذا هو ما حدث مُؤخّراً من إعداد قطارات الثورة من عطبرة لمقر الاعتصام، واستقبال واستضافة قطارات الوفاء الواردة إلى عطبرة.
** كُنت في أم المدائن عطبرة يوم الثورة العام الماضي للاحتفال السنوي لمدرسة عطبرة الثانوية القديمة كما تعوّدنا في هذا التاريخ 19/12 تقديراً لمُؤسِّس المدرسة الزعيم الخالد إسماعيل الأزهري في الحكومة الوطنية الأولى عام 1954م، فاحتفالنا كان تقديراً للأب الزعيم المُؤسِّس في ذكرى إعلان الاستقلال من داخل البرلمان، ووقفنا على هبة طلاب المدرسة الصناعية بسبب ساندوتش الطعمية وتوجّهوا للمدرسة الأهلية أو مدرسة الجلود كما نُسمِّيها وللاسم ثورة هي الأولى للقضاء على مدرسة المبشر كما سمى الشاعر الخالد يوسف مصطفى التني مدارس الكمبوني في خالدته “في الفؤاد ترعاه العناية”، وكانت مدرسة الجلود واحدةً من انتفاضات عطبرة بجمع جلود الأضاحي وقيام المدرسة العريقة، ويكفي أنّ من خرِّيجيها الشعراء الثلاثة محمد سالم حِمّيد وأزهري محمد علي والسر عثمان الطيب، وتحرّك طلاب المُدرستين إلى مدرسة الخدمات وكان التجمُّع، ومُصادفة كانت دار المؤتمر الوطني تجاور مدرسة الخدمات (حيطة بالحيطة) وحَدَثَ ما حَدَثَ.
** سقط الشهداء طارق ومختار وحاجة مريم التي تَوضّأت استعداداً للصلاة في بيتها لتخترق جسمها إحدى رصاصات الغدر الطائشة!!
**ثُوّار عطبرة لم تمتد يدهم بالتخريب إلا هذه الحالة لدار الحزب الحاكم وجُزء من مقر المحلية، ولم تُسجّل طيلة أيام وشهور الثورة أعمال تخريب أو نَهبٍ للمُمتلكات، فهذه عطبرة منذ أيام مُكافحة المُستعمر لإجباره بقيام أول نقابة عُمّالية في المنطقة العرببة عام 1945م ومنذ مُواجهته في مَلحمة شهداء الجمعية التشريعية عام 1948م وما تلى ذلك من انتفاضاتٍ في أكتوبر وشعبان وأبريل وما بعدهما.
**تَمَنّيت أن أكون شاهداً في عطبرة لولا المرض وصُعُوبة الحركة، مع علمي بأنّ كل شيء يسير كما هي عطبرة، ولكن لاذكر بتكريم وتخليد الآباء المؤسسين لهذا التاريخ وهذه المواقف الخالدة التي ترفع رؤوسنا خَاصّةً الذين اقتلعوا الحق النقابي عنوةً واقتداراً وهم السادة الرموز سليمان موسى – الطيب حسن – علي محمد بشير – الشفيع أحمد الشيخ – قاسم أمين – عبد القادر سالم- الحاج عبد الرحمن – موسى متي – محمد الحسن عبد الله – محمد عرفة السيد – حسن حاج موسى – رحمهم الله جميعاً، ومؤكد هنالك غيرهم لو سمحت المساحة والذاكرة.
**نغمة “شعب واحد… جيش واحد” سمعناها في عطبرة في أكتوبر وأبريل وحتى في أيام انتفاضة ديسمبر هذه هتفوا بها تقديراً للمُكوِّن العسكري سلاح المدفعية الحاضن الثاني لعطبرة مع السكة حديد ويسهم في حل الضائقات وشهدت جنود المدفعية يُلوِّحون للمتظاهرين، وبعد سقوط الشهداء دعانا في قيادة المدفعية قائدها الفريق عبد المحمود حماد (والي نهر النيل الحالي) للتفاكر حول وقف الدماء، وفي ذلك الاجتماع أشاد قادة الثورة بالمدفعية، بل منهم مَن طلب أن تتولى الأمر بدلاً من غيرها، ويومها تحدّثنا عن ضرورة وقف التصعيد وإطلاق سراح المُعتقلين ووعد الوالي السابق، ولكن كان قد تم ترحيل بعضهم للعاصمة ومنهم الطبيب الإنسان سيد أحمد الخطيب، وكتبت أربع مرات في هذه الصحيفة عنه مُطالباً بإطلاقه وذلك لأنّ والدتي رحمها الله كانت تُشيد به وتدعو له كثيراً، وحين يأتي ذكره تقول وهي على فراش المرض (دكتور الخطيب يتبارك)، ولا أظنها وحدها، فللرجل أيادٍ حانية على مرضاه بدون مُقابلٍ.
****نقطة نقطة ****
**أحد أعمامنا من النقابيين اليساريين في عطبرة يسألني كل مرة سؤالاً لا أجد له إجابة شافية حين يقول بلهجته المُمعنة في النُّوبية (إنت أيه الحاصل طول عُمرنا نشتِّم في الأمريكان والإمبريالية واليوم بقوا بتوعنا واللاّ بقينا بتوعهم؟) وأجيبه بأنها السياسة ولا يقتنع.
**وعودة لعطبرة، ولا ننسى أنّها أول من لعب كرة القدم لأن الإنجليز بقوا سنوات فيها لتأسيس السكة حديد وتشييد كوبري الحديد وشاهدهم الأهالي يلعبون الكرة وغيرها فَمارسوها معهم. وبعد وُصُول الخط الحديدي للعاصمة وأقاموا في داخليات البركس، لعب ناس بُرِّي الكرة ولذلك يُعتبر نادي بُرِّي الأول لأنه تأسس عام 1918م، وبنى مدير السكة حديد المستر باركر عام 1927م، دار الرياضة الحالية وحجر الأساس موجودٌ ومع هذا يذكر إعلامنا الرياضي بأنّ إستاد الخرطوم شيخ الإستادات وهو الذي اُفتتح عام 1957م أي بعد إستاد عطبرة بثلاثين سنة، وحين لعبت فرق عطبرة بالإستاد في العشرينات والثلاثينات كانت العاصمة تلعب في سُوق القش.
** استقال ابن عطبرة الكابتن هيثم مصطفى من تدريب الهلال لإحساسه بأن المدرب الجديد المصري حمادة صدقي أتى ومعه طاقمٌ، تصرُّف هيثم جُزءٌ من التربية العطبراوية، وحسناً ما سمعته بأنّه سيعود لأم المدائن لتدريب نادي الفلاح، وكُنت قد ساهمت العام الماضي ليتولى تدريب الأمل.. وبمناسبة الأمل، فقد كانت انتصاراته وتصدُّره الدوري الممتاز وفوزه على الهلال والمريخ من معالم ثورة عطبرة.
** ماذا دهى المريخ وأهله، فقد تولّيت دعوتهم للمُشاركة في عقد قِران ابن الرمز المريخي العظيم المرحوم عبد الرحبم الخضر عاشق المريخ ومُؤسِّس رابطته في السعودية، وكان ينوب عن المريخاب ويُسدِّد ويوصل نصيبهم من مُرتِّب المدرب الألماني آرنست رودر للسيدين الحاج مزمل مهدي وطه صالح، ثم تأتيه إسهامات الآخرين.. لم يحضر من الرياضيين سوى الأخوان حاتم عبد الغفار والكابتن شوقي عبد العزيز، ولم يتّصل ويبدي الرغبة في المشاركة غير الريس محمد الياس محجوب، ورحم الله رموز العمل الاجتماعي في المريخ الحاج شاخور وحاج التوم وحسن محمد عبد الله وسيف الكردفاني والفاتح المقبول وآخر العظماء أحمد محمد الحسن.
**وصلتني دعوة للمُشاركة في وقفة احتجاجية أمام دار الصحفيين اليوم، وسأحاول التغلُّب على آلام الركبة وأُشارك كما ظللت دائماً أحرص على المُشاركة في أيِّ عملٍ من أجل حرية الصحافة والصحفيين رغم اختلافي مع القيادة الحالية للاتحاد، ومرة شاركت في فعالية للتنظيم الصحفي المُعارض، كما أنني شاركت في مسيرة دعا لها المرحوم سيد أحمد خليفة وألبسنا أو لصق على أفواهنا لصاقاً ووقفنا أمام وزارة الإعلام وعادت المسيرة الصامتة ولم يُعتقل أحد غيري وكان السبب حتى لا يُرسل الخبر لإذاعة “بي بي سي” التي كنت أُدير مكتبها آنذاك.