حسب الأخبار الواردة من المُفاوضات في جوبا، فإنّ الوفد الحكومي انخرط أمس برئاسة الفريق شمس الدين كباشي عضو المجلس السيادي، في تفاوُضٍ ونِقِاشٍ بالغ الأهمية حول نقطة حسّاسة وخطيرة وحاسمة مع الحركة الشعبية جناح الحلو حول طبيعة الدولة وعلاقة الدين بالدولة، وتُعد هذه النقطة الخلافية الحادّة من أعقد ملفات التفاوُض، ويُمكن أن تكون هي القَشّة التي ستقصم ظهر بعيرها، وظلّت الحركة الشعبية جناح الحلو، تضع مَسألة العلمانية شَرطاً من شروط مُوافقتها على توقيع اتّفاق سلام مع الحكومة، ولم تتنازل أبداً عن هذا المطلب، وهي تعلم حجم الرفض الشعبي وحساسية الحديث عن فصل الدين عن الدولة وإلغاء التشريعات الإسلامية، ولا تتجاسر أيّة سلطة منذ العام ١٩٨٥ على إلغاء التشريعات التي سنّت في عهد الرئيس نميري عام ١٩٨٣، فلا الحكومة الانتقالية عقب الانتفاضة استطاعت إلغاءها، ولا الحكومة المُنتخبة برئاسة السيد الصادق المهدي تمكّنت من كشطها وشطبها بجرة قلم، وعندما جاء حكم الإنقاذ سار على نهجها وزاد عليها تشريعات جعلت من الشريعة الإسلامية هي مصدر التشريع، وكل ما فعلته اتفاقية السلام في ٢٠٠٥م، التي أنهت الحرب في جنوب السودان أن استثنت هذا الجُزء من تطبيق الشريعة وجَعلت للإقليم قبل انفصاله خُصُوصية تشريعية وقانونية لا علاقة لها بالشريعة.
المُثير في جلسة الحوار التي ناقشت طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، أمس في جوبا، أنّها تَطرح القضية في وقتٍ تتقارب فيه الحركة الشعبية فكرياً وفي مناهج الحكم وفلسفته العامة مع الوثيقة الدستورية الحالية، ومع ما تطرحه قِوى الحُرية والتّغيير، وما وجود وزير العدل الانتقالي في هذه المُفاوضات ومَواقفه التي عبّر عنها وطبيعة فهمه للقانون إلا دليلاً على نَوع المُقاربة التي يُمكن أن تتم في هذه المسألة بين طرفي التفاوُض، رغم قول السيد وزير العدل بعد جولة النقاش إنّ هُناك نقاطاً خلافية بين الطرفين، ولا يُساور أحدٌ شَكٌ في أنّ النقاط الخلافية ليس حول حرص الحكومة الانتقالية على تطبيق الشريعة، وعلاقة الدين بالدولة، وطبيعة نظام الحكم وهياكله التي يُراد لها أن تستبعد الدين كُليةً من الحياة العامّة، كما تقول الحكومة ورموزها صباح مساء، فقد تكون الخلافات حول مسائل إجرائية وكيفية إعلان اتفاق تتطابق فيه الآراء والمَواقف وتخفيف وطأته على عامة الشعب .
وكَثيرٌ من العُقلاء يرون أن إصرار وتعنُّت حركة الحلو في مسألة العلمانية وإبعاد الدين وهو الخَط السِّياسي الثابت الذي لم تحد عنه الحركة منذ تأسيسها في عهد جون قرنق وحتى اليوم، ليس أمراً تكتيكياً ولا شعاراً ترفعه لتزايد سياسي وتحقيق نقاط ذات اعتبار تفاوُضي، ولا يُمكن أن تتّخذ الحركة قراراً بالتوقيع على أيِّ اتفاق سلام إن لم تضع هذا التنازُل من الخرطوم الرسمية في جيبها.. ولذلك حتى غلاة العلمانيين من كوادر الحركة نفسها يرون أنّ قضية الدين والدولة وفصلهما أو امتزاجهما كما قالت الأعراب امتزاج الماء بالراح، أمر لا بُد من تركه للمُؤتمر الدستوري أو لاستفتاء عام يُشارك فيه الشعب كله برأيه .
وما يُثير الريب الآن، أنّه لا تُوجد جهةٌ في الحكومة الحالية يُمكن أن تختلف مع الحركة الشعبية في تصوُّرها لطبيعة الدولة في هذا الجانب، فالكل الآن في الحكومة التي تُسيطر عليها الحرية والتغيير والحركة الشعبية يصدرون من منبع ومشكاة واحدة ويتبنون خيار العلمانية كخيار أوحد لحكم السودان، وكثير من الناس ظلّ يعتقد أنّ الحديث عن الحكومة (المدنية) مقصود بها المفهوم المُقابل (للعسكرية) لكن في الفكر السياسي والمُتعارف عليه في المصطلح العلمي والمعرفي أنّها تعني الدولة العلمانية التي تبعد الدين كلياً عن الدولة وتمحضه أية صفة تجعل منه ذا تأثير في الحياة العامة، فمن الخطل إذن الاعتقاد أن السيد وزير العدل سيكون قديساً أو راهباً في محراب أو مُدافعاً شرساً ومجاهداً صنديداً في مُواجهة دعوة الحركة الشعبية بإبعاد الدين وحسم علاقته بالدولة، فالحكومة المدنية الحالية أكثر حِرصاً من عبد العزيز الحلو نفسه على حسم علاقة الدين بالدولة وإبعاده عنها ولا نحتاج إلى شاهد شاخص أو دليل على ذلك.. ومن نوافل الحديث الإشارة إلى أنّ السيد الوزير هو أول من أشار بجواز شرب (المريسة) باعتبارها ثقافة أهل السودان، وهي تدخل بالطبع في حدٍّ شرعي من حدود الله. ما يهمنا الآن هو أن هذه القضية قد يتم الاتفاق عليها وتحدِّد طبيعة الدولة وعلاقتها بالدين، لكن كيف ستجرؤ حكومة الفترة الانتقالية على إعلان ذلك والقول بصريح العبارة إنها مع الدولة العلمانية وستلغي أي قوانين مُستمدّة من شريعة الرحمن..!
(وقفة الصحفيين الاحتجاجية)
في الحادية عشرة من صباح اليوم، يقف الصحفيون أمام دارهم المُغلقة وأمام إجراءات حل كيانهم المهني والنقابي في اعتسافٍ كاملٍ للقانون وتغول على الحق الأصيل، حيث تدخّلت السُّلطة الحاكمة دُون أن تكون لها أيِّ مسوِّغات في حُرية التنظيم النقابي مُخالفة كل المواثيق والعُهُود الدولية، وفي تناقُضٍ واضحٍ مع الوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية الحالية، سيقول كل صحفي حُر كلمته للتاريخ، وسيحصد الذين سعوا إلى قهر الصحافة السراب العريض، ولن يَستسلم المُجتمع الصحفي للقرارات التي تُحاول سلبهم إرادتهم الحُرة والتدخُّل في كيفية تنظيم أنفسهم واختيار كيانهم الذي يجمعهم، ويُقدِّم لهم الحماية والخدمات، ويحرس المهنة من الاستغلال السياسي.. سنكون جسداً صحفياً مُتماسكاً صباح اليوم أمام دار الاتحاد، لا يهمنا من تَخاذل ومن تآمر، فالحُرية لا تتجزّأ ولن نخون أقلامنا ومدادنا ولن نترك دارنا …