أهمية الخبرات والتجارب في إدارة الدولة
يمتد عمر تاريخ نشأة الفلسفة منذ حوالي خمسة وعشرين قرناً من الزمان، أي منذ عرف الإنسان الفلسفة عند المفكرين القدماء اليونانيين أمثال طاليس وفيثاغورث صاحب النظرية الشهيرة في الرياضيات، كان هؤلاء الفلاسفة يفكرون في المسائل الفلسفية المتصلة بالعالم والطبيعة كما نفكر نحن اليوم في المسائل العلمية المتصلة بالاقتصاد والسياسة والإدارة والقضايا الفكرية والاجتماعية، وبدأ تاريخ الفلسفة عند الإنسان الأول بتحليل علم الطبيعة والتأمل فيها للوصول إلى حقيقة الأشياء والكون، حتى إن المقررات الدراسية في علم الفيزياء كانت تسمى بالفلسفة الطبيعية… وكانت تستند النظريات الفلسفية القديمة على فكرة التأمل والنظر فقط، غير أنه بعد تطور فكرة المعرفة والعلم وتطور نظرية المعرفة والعلم وتفرع العلوم وبروز التخصصات حتى في مجال العلم الواحد أصبحت نظرية التأمل والنظر التي كانت متبعة في مجال الفلسفة غير كافية في التوصل إلى حقيقة الأشياء في الكون وتفسيرها وتحليل علاقاتها مع بعضها البعض، إذ أن الفلسفة في معناها العام تعني خليطًا من رؤية تفسير الأشياء والمظاهر تفسيراً علمياً وأخلاقياً وسحرياً ولاهوتياً، ومن تلك اللحظة انفصلت الطبيعة عن الفلسفة ونشأ العلم بفروعه المختلفة واعتمد العلم في تفسير الأشياء وتحليلها على نظرية الملاحظة والتجريب، وهو المنهج العلمي الذي يفسر ويحلل به العلم الأشياء ومظاهر الكون.
ومن الملاحظات التي نراها اليوم في عالم الدولة والسياسة غياب نظرية الملاحظة والتجريب وتراكم الخبرات والتجارب في فقه إدارة الدولة وتصريف شؤون الإدارة والسياسة، نتيجة ضعف أداء القوى السياسية والحزبية من خلال تنظيماتها وفلسفة عملها، وهذا الضعف في تكوينات الأحزاب السياسية ومنظمات المجتمع المدني انعكس سلباً على فقه إدارة الدولة وفلسفة سياسة شؤون الدولة، وصارت هذه التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقوى المستقلة ترفد الدولة بكوادر تفتقر إلى المعرفة والعلم والتجارب والخبرات الواسعة والمتنوعة التي تسعفهم حين يشغلون مناصب ومواقع فى إدارة شؤون الدولة ، وحين يصلون إلى مواقع صنع القرار السياسي أو القرار الإستراتيجي أو القرار الإداري.
وبمثلما تفعل التنظيمات السياسية ومنظمات المجتمع المدني والقوى المستقلة برفد الدولة والمجتمع بقيادات تعوزها التجارب والخبرات والرؤية الفلسفية الناضجة في تصريف شؤون الدولة والعمل العام، كذلك تفعل الثورات السياسية ـ نميزها بالسياسة، لأن هناك ثورات علمية وثورات ثقافية وثورات اجتماعية، وهي الأهم، إذ أن الثورات السياسية تأتي تبعاً للثورات الاجتماعية والثقافية ـ برفد الدولة والمجتمع بكوادر فاشلة تفتقر للتجربة والخبرة في مجال العمل العام وفلسفة صياغة الخطاب العام الذي يقنع الرأي العام بأفكار الثورة الجديدة، وهذا يتجلى لنا الآن في السودان من خلال ثورة 19 ديسمبر 2019م التي يتطلع الشعب من خلالها إلى تغيير حقيقي يحقق الإصلاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والإداري، فإذا بقوى الحرية والتغيير وتجمع المهنيين يخطفون الثورة ويسلمون الدولة لهجين من الشيوعيين والجمهوريين والناصريين والبعثيين ضعاف التجارب والخبرات، فقدوا ثقة الرأي العام سريعاً من أيامهم الأولى في إدارة الدولة، نتيجة تخبط في خطابهم الذي لا يشبه خطاب رجل الدولة الراشد، وتفاجأ الشعب والثوار أن الدولة اليوم يقودها في قمة جهازها التنفيذي أمثال نصر الدين عبد الباري، ومفرح، وأسماء، والقراي، وفيصل، والبوشي، والقائمة تطول، وستطول معاناة الشعب مع هؤلاء الأشباح العاجزين عن كل شيء.