الخرطوم: الصيحة
تمر هذه الأيام ذكرى ثورة 19 ديسمبر. ولابد هنا من الوقوف لدى أبرز محطاتها، ومعلوم أن يوم 19 نفسه لم يكن بداية الثورة، ولكن تواضع الناس على ذلك نتيجة لأهمية الأحداث التي تمت فيه، والمدينة التي حدث فيها وما لها من ثقل تاريخي في الذاكرة الجمعية للسودانيين، فتم التواضع على أن يوم التاسع عشر من ديسمبر حيث خرجت جموع أهالي مدينة عطبرة، هو اليوم الذي ارتبطت الثورة به وارتبط بها.
ولئن كان الأمر كذلك، أي انتساب الثورة إلى أهمية الحدث وارتباطها به، فقد يرى كثيرون أن يوم 25 من نفس شهر ديسمبر، هو ما يجب أن تنسب إليه الثورة، وهو تاريخ الخطاب الشهير للقائد حمدان دقلو حميدتي بمناسبة استقباله الكتيبة الاستراتيجية القادمة من الحدود الغربية بطيبة الحسناب. لأن هذا الخطاب الشهير، هو في نظر الكثير من السياسيين والمؤرخين، نقطة التحول الحقيقية في الأحداث التي صنعت الثورة!
نعم، لقد تمت الاحتجاجات قبل هذا التاريخ، ولكن بعد الخطاب الشهير تدافع المد الثوري واتسعت أمواجه البشرية حتى تمت إزاحة النظام، وربما يعود الفضل هنا للقائد حمدان دقلو، ولهذا الخطاب الذي اعتبره الجميع أشارة الضوء الأخضر بانحيازه للثورة! نعم، كان خطاب حميدتي الشهير بطيبة الحسناب أول خطاب لشخصية رمزية كبيرة في الحكومة تتناول أزمة البلاد التي تفجرت من أجلها الاحتجاجات التي قادت إلى الثورة.
أول شخصية سيادية في النظام السابق لها حيثياتها المعلومة تتطرق إلى الأزمات التي تعيشها البلاد بكل ما تتمتع به هذه الشخصية من صدقية وشفافية لا يختلف حولها حتى الخصوم.
تناول في خطابه الشهير بطيبة الحسناب مجمل الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، ونعى فيه الإنقاذ حقيقةً، وانحاز لخندق الشعب وجموعه الثائرة، بقوله ابتداءً (والله الشعب دا صبر صبر شديد، وأي زول يتهمه بعدم الصبر، دا زول ما بخاف الله)، هذه أول إشارة لمشروعية الشعب وأحقيته في الاحتجاج تصدر من شخصية بارزة في النظام السابق. بل من نفس الشخصية التي صورها النظام وأتباعه كالأداة والعصا الغليظة التي أرادوا أن يخوّفوا بها الشعب في بواكير هبته العظمى. وهي الإشارة والضوء الأخضر الذي كان ينتظره الشعب. كانت الجماهير وهي في بداية ثورتها تنظر إلى الدعم السريع لمعرفتها بقوته ولمعرفتها أيضاً بالدعاية والتنميط الذي حاول النظام السابق إشاعته وتكريسه في الأذهان، بأنه القوة الرادعة التي سوف يجابه بها أي تحدٍّ لسلطته.
إلا أن القائد حمدان دقلو حميدتي كان واعياً بدوره التاريخي في المرحلة الدقيقة واللحظة الفارقة في تاريخ البلاد السياسي، فالتقط الكرة بمهارة وأرجعها إلى ملعب الجماهير قائلاً بوضوح تام وشجاعة عرف بها الرجل: (هذه الكتيبة الاستراتيجية لم تأت من أجل هذه الأحداث ــ يقصد الاحتجاجات ــ وإنما تم استدعاؤها في وقت سابق لهذه الأحداث، تزامن قدومها فقط إلى الخرطوم مع هذه الأحداث. وزاد: نحن ما عندنا شغلة بي (زول) ولا جينا عشان نضرب (زول)، نحن شغلنا تأمين الحدود والمحافظة على أمن البلد. بل وذهب أكثر من ذلك في تطمين الجماهير إلى إعطاء أوامره إلى جنوده من قوات الدعم السريع بأن يلتزموا بالزي الرسمي للدعم السريع، مضيفاً قوله حتى نعرف الجهة التي تتعرض للمواطنين بالضرب.
لم يكن هنالك بيان رسمي بالوقوف مع الثورة أكثر من هذا الخطاب الشهير بخطاب القائد حميدتي بطيبة الحسناب. الذي أشاع ارتياحًا واسعاً وسط جماهير الشعب السوداني لمعرفتهم بحياد الدعم السريع في صراعهم مع السلطة، فازداد عزمهم للثورة.
ولم تكن تلك هي التصريحات الوحيدة الداعمة للثورة في خطابه يوم 25 ديسمبر السنة الماضية وحسب، وإنما عقد أول محاكمة أخلاقية وسياسية للنظام، حينما أكد أن هنالك تلاعباً أدى إلى أزمة السيولة، وهو تلاعب مقصود ليس من صنع المواطنين وإنما من فساد المسؤولين الذين يجب محاسبتهم، داعياً إلى وجوب نهاية التمييز بين المواطنين بقوله: (تاني ما في أولاد مصارين بيض الكل أمام القانون سواسية). مشيراً إلى إخلال الحكومة بعهدها معه في قضية جمع السلاح من أيدي المواطنين، بحيث تم جمعه وفقاً للقانون ممن يحتاجه فعلاً في الدفاع عن ماله وحلاله نتيجة لطبيعة المنطقة هناك، بينما هنا في الخرطوم يجد من يتم السماح له بامتلاك السلاح).
كان الخطاب دعماً معنوياً كبيرًا للثورة، ومحاكمة أخلاقية وسياسية للنظام، مثل نقطة تحول تاريخي في علاقات السيطرة والقوة بالمشهد السياسي بالدولة السودانية، ولم تعد الأوضاع بعده كما كانت في السابق. لهذا يعتبره الكثير من الخبراء السياسيين والمؤرخين أبرز الأحداث التي أحدثت تحولًا حقيقياً في ميزان القوة في المشهد السياسي لصالح الثورة وخصما على النظام، بل اعتبره البعض منهم أنه البداية الفعلية لنهاية النظام السابق، وكان من المفترض تأريخ ثورة ديسمبر بيوم 25 منه نتيجة لما أحدثه من تحولات كبرى حملت في أحشائها مستقبل الأحداث التي جرت أيام الثورة حتى تم إسقاط النظام السابق. وأكد الجميع أن شعار الثورة العفوي (حميدتي الضكران الخوّف الكيزان)، لم ينشأ من فراغ، وإنما نتيجة لما أحدثه هذا الخطاب ومواقف الدعم السريع، ضمن الأحداث المتلاحقة للثورة، من انطباع في الذاكرة الجمعية للثوار حتى تُوِّجَتْ برفع صور القائد حميدتي أعلى النفق بأرض الاعتصام ما يعكس وعي الثوار وعرفانهم بمواقفه تجاه الثورة التي نعيش ذكراها الأولى، بحيث لا ينسى كتاب التاريخ هذه المواقف ولا تتلاشى لمجرد ارتفاع الأصوات العالية الآن نتيجة لما يقوم به البعض من تشويه متعمد ومقصود لتنميط قوات الدعم السريع وقائده في صورة معلبة من أجل العزل والاحتواء.
إلا أن كتاب التاريخ وذاكرة الثورة ووعي الشعب أبقى، وسوف يظل خطاب القائد محمد حمدان دقلو حميدتي الشهير بطيبة الحسناب أول العلامات البارزة في تحول المشهد السياسي برمته في البلاد انحيازاً للثورة والثوار .