المُفاوضات المُتعثِّرة (2)
وَقّعت الحكومة والحركة الشعبية الفصيل الذي يقوده اللواء إسماعيل خميس جلاب على اتفاق لتوصيل المُساعدات الإنسانية للمنطقتين كأول ثمرة للمُفاوضات المُتعثِّرة في جوبا منذ انتقال مقر التفاوُض من أديس أبابا إلى عاصمة جنوب السودان، ويمثل الاتفاق ثمرة لجُهُودٍ مُضنيةٍ، بذلتها الأطراف وصولاً لصيغةٍ مقبولةٍ قَضَت بفتح الحدود والأجواء للمُنظّمات الدولية العاملة في المجال الإنساني لتوصيل الإغاثة والاحتياجات الأخرى لإنسان منطقتي النيل الأزرق وجبال النوبة.
لمدة ثماني سنوات كما ذكر الأمين العام للحركة الشعبية ياسر عرمان، ظلت المفاوضات تراوح مكانها بين الحكومة السابقة والحركة الشعبية السابقة، فحكومة البشير مضت عليها أقدار التاريخ وتمت إزاحتها بإرادة الجماهير في أبريل الماضي، والحركة الشعبية السابقة انقسمت إلى حركتين، الأولى لم تهتم كثيراً بملف الشأن الإنساني ولكنها جعلت من الدولة العلمانية مشروعها الأساسي والعلمانية قضية كل السودانيين المطالبين بها والرافضين لها !
بينما الجناح الذي يقوده اللواء إسماعيل خميس جلاب أكثر التزاماً بما كان مُتفاوضاً بشأنه من قضايا تعتبر جوهرية ومفتاحية لبقية القضايا الشائكة.
واتفاق فتح المسارات الإنسانية تعثّر طوال الأعوام الماضية بسبب تعنُّت العسكريين من جهة الحكومة ورفضهم توقيع مثل هذا الاتفاق بدعوى ومزاعم أمنية وشكوك حول استخدام الحركة الشعبية لطائرات الإغاثة والمُنظّمات لدعم موقفها العسكري، ويضرب العسكريون المثل باتفاق شريان الحياة الذي تمّ توقيعه بين الأمم المتحدة وحكومة السودان والحركة الشعبية، ويزعمون أنّ ذلك الاتفاق من أسباب تقوية الحركة وإطالة أمد النزاع في جنوب السودان، ولكن الآن تغيّرت تركيبة الحكم وباتت هناك إرادة سياسية فوق الإرادة العسكرية وأصبح العسكريون خاضعين للإرادة السياسية، وفي السابق كانت المؤسسة العسكرية تفرض (فيتو) على المُفاوضين وهي من يُقرِّر في مسار التفاوُض الشيء الذي جعل المُفاوض المدني مُجرّد مُوظّف يأتمر بأصحاب النياشين الحمراء.
وحينما اشتجر الخلاف عميقاً بين الوفد الحكومي ووفد الحركة الشعبية نظر ياسر عرمان في ذلك اليوم المُمطر في أديس أبابا لوجه الجنرال عماد عدوي رئيس أركان الجيش حينذاك، وكان من الصقور المُتشدِّدة بأمر الرئيس السابق ولا يتردّد في إملاء مواقفه على مُساعد الرئيس حينذاك المهندس إبراهيم محمود حامد الذي هو بحكم منصبه وبتفويض الرئيس يُفترض أن يكون صاحب الكلمة النهائية في القضايا موضوع النقاش، ولكن عماد عدوي رفض توصيل الإغاثة من إثيوبيا، وحتى مبدأ تفتيش الشحنات الذي طرحته القيادة الإثيوبية رفضه عدوي، فغضب عرمان بشدة وقرّر بطريقته في إثارة الخصوم أن يقذف عدوي بحجر في ذلك المناخ البارد، فقال عرمان هذه المُفاوضات معتلة ومريضة ولن نصل لاتفاق لأننا من حيث المبدأ كان يفترض أن نفاوض من يقاتل، والحال كذلك كان علينا التفاوض مع حميدتي وليس عماد عدوي !!
كلمات عرمان التي اعتبرت حين ذاك بمثابة فرقعة ومُحاولة لإثارة حنق عدوي، أصبحت اليوم حقيقية، وتولي الفريق محمد حمدان حميدتي نائب رئيس المجلس السيادي ملف المُفاوضات وهو الآن المرجعية العسكرية والمرجعية السياسية، فهل كان ياسر عرمان يقرأ الكف ويضرب الرمل ويتنبأ بما سيحدث مثل نبوءة الفكي سليمان في رواية الراحل أحمد الطيب زين العابدين دروب قرماش؟
وقّع عرمان وحميدتي على اتفاق توصيل المُساعدات الإنسانية للمنطقتين، وهو اتفاقٌ لا تملك الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو رفضه، وليس منطقاً أن تعتبره شأناً خاصاً بالجناح الآخر من الحركة باعتبار القضايا الإنسانية عابرة للحدود وعابرة لجُغرافية السياسة والتكوينات وتطبيق الاتفاق رهينٌ بمُوافقة الحركة الشعبية الأخرى، ولا ينبغي للحلو ولا غيره من حاملي السلاح استخدام الشأن الإنساني في الصراع السياسي.
ولكن الاتفاق يمثل من جهة أخرى مختبراً عملياً لكيفية توقيع وتنفيذ اتفاقيتين لحركتين مُنفصلتين في منطقة جُغرافية واحدة!!
فالمُفاوضات الحالية يُفترض أن تنتهي بتوقيع اتفاقية مع الجبهة الثورية ومع الحركة الشعبية بقيادة عبد العزيز الحلو، وبين التنظيمين تقاطُعات ومثل هذه الاتفاقيات تتكوّن من شقين، قومي وجهوي أو إقليمي، وفي حال التوقيع على الاتفاقيتين، مثلاً مَن يمثل جبال النوبة هل الحلو أم خميس جلاب؟ ومن أحق بقيادة النيل الأزرق مالك عقار أم أحمد العمدة؟ ومن يمثل الإقليمين في الحكومة المركزية؟
تُعتبر اتفاقية توصيل المُساعدات بمثابة (قُولة خير) في تقاليد الزواج والخطوبة، ونجاح تطبيق الاتفاقية يمثل المفتاح لنجاح بقية الاتفاقيات المُنتظر توقيعها في قادم الأيام والمواعيد.