قُلنا قبل أيام، إن ارتباط عملية السلام في السودان بالأخرى في جنوب السودان، ارتباط عضوي ولا فكاك للبلدين عن بعضهما، وإن افترقا وانفصلا ذات يوم، فإنهما يلتقيان عند مصير مشترك ومصالح مُتبادَلة، كما يجري الآن، فجوبا التي تشهد مفاوضات طويلة ومُضنية من أجل السلام والاستقرار ووقف الحرب في السودان، تمسح الخرطوم عن خدّيها السمراوين أحزان ودموع الحرب، وهو أقل ما يُمكن أن يعطي السودان للجزء الذي انفصل عنه وبقي في القلب ومشى في الدم والعروق. فأول من أمس هو يوم فرح لشعب جنوب السودان بالاتفاق على تكوين حكومة قومية وبدء تنفيذ الاتفاق الذي رعته الخرطوم في السابق، واستُكمل عبر جولات وزيارات ماكوكية قام بها النائب الأول لرئيس المجلس السيادي الفريق أول محمد حمدان دقلو، كوسيط بين الفُرقاء الجنوبيين حتى تم الاتفاق بين رئيس دولة جنوب السودان الفريق سلفاكير ميارديت وزعيم المعارضة الدكتور رياك مشار، وبتكوين الحكومة الانتقالية الجنوبية ستُطوى صفحة الحرب الضروس بين الأطراف المتحاربة في دولة جنوب السودان، وتبدأ مرحلة سياسية جديدة لها انعكاسات على السودان، وعلى الإقليم بشكل عام ..
بنفس القدر تبذل جوبا وخاصة الرئيس سلفاكير جهوداً مُتواصلة من أجل وقف الحرب والتوصّل إلى اتفاق بين الحكومة ومكوّنات التمرد السودانية التي تتواجد الآن ومنخرطة في التفاوض المباشر. ومهمة جوبا ليست مستحيلة، خاصة بعد توقيع اتفاق إطاري مع إحدى فصائل الحركات المسلحة، وهي الحركة الشعبية بقيادة مالك عقار، ويشمل الاتفاق وقف العدائيات وفتح الممرّات لنقل المساعدات الإنسانية، وكانت هذه عقبة كأداء في الفترات الماضية، ويُنتظَر أن تُسفر الأيام القادمة عن تقدّم كبير في سير التفاوض للاتفاق على بقية القضايا التي ظلّت مَحِل خلاف، ولا يستطيع أحد أن يزايد أو يُنكر هذا الجهد الكبير المبذول في ملف السلام ..
إذا سارت الحركة الشعبية في جناح عبد العزيز الحلو وحركات دارفور بمسؤولية كبيرة بعيداً عن الشروط المُسبّقة، ستضع الحرب أوزارها في جنوب كردفان ودارفور، وتنتهي إلى الأبد محنة الحرب والموت الزؤام، وتنطلق البلاد في مسار جديد تتحقّق به التنمية وتلتئم الجراح ويتوحد السودانيون ويتّفقون على وطنٍ يضمهم جميعاً، وتنطلق مراكبهم نحو الأمن والاستقرار والسلام والتنمية، بعد سنوات عِجاف من الحرب والخراب، لكن هل تستطيع فعلاً حركة الحلو أن تتجاوَز الموقف المُتعنِّت المُتعلّق بمحاولة فرض العلمانية وجعلها شرطاً من الشروط الواجبة النفاذ أو المطالبة بالحكم الذاتي؟
لا فائدة تجنيها حركة الحلو من التمسُّك بخيار ليس مكانه منضدة التفاوض أو ورقة التوقيع، فالشعب السوداني هو صاحب الحق في الاختيار ما بين العلمانية أو أي نظام آخر عبر صناديق الاقتراع، ولا يصح أن تحاول حركة متمردة فرض إرادتها على أغلبية الشعب وتمرير أجندتها وهي لا تُمثّل نسبة تُرى بالعين المُجرّدة من مجموع السكان في البلاد ..
هناك أيضاً حركات دارفور وبقية أطراف الجبهة الثورية وحركة عبد الواحد نور التي ترفض التفاوض عبر منبر جوبا من الأساس، وتُريد مساراً خاصاً بها، فالحركات الأخرى غير حركة عبد الواحد قريبة جداً من عملية التوقيع ولا توجد لديها تحفظات أو تعنُّت سوى ما يتعلق ببعض التفريعات غير الأساسية والجوانب الإجرائية في تعيين الولاة وعملية الترتيبات الأمنية والعسكرية، وتعتبر هذه قضايا سهلة لا خلاف جوهري يوقف التقدم نحو حلها، وأي تصريح لقيادات هذه الحركات يصب في اتجاه السلام، ويسير في الاتجاه الصحيح إذا حُسمت بعض الصغائر وشذرات الخلاف .
مع كل هذا، هناك مُهدّدات تُهدّد قطار السلام المُنطلِق بقوة، توجد جهات إقليمية ودولية لا ترغب في رؤية السودان وجنوب السودان قد تخلّصا من عقابيل الحرب والدمار واختارا طريق السلام ووقف الحروب دون مساعدة من أحد، ستعمل هذه الجهات علي إفساد أو إبطاء هذا القطار وتعطيل انطلاقته، ولكل جهة أساليبها ودوافعها، لكن الإرادة السياسية القوية في البلدين الجارين ستتغلّب على الكيد والتآمر، ولن يصح بعدها إلا الصحيح ..