معركةٌ ولا مُعترك ..!
نبَّهنا وحذّرنا السلطة القائمة من خطورة إدخال البلاد في أتون صراعات جديدة، فمع تداعيات قانون تفكيك النظام الذي حُلّ به المؤتمر الوطني، وما خلّفه من حالة استقطاب واحتقان حادة، دخلت السلطة في صراع من نوع آخر مع النقابات والاتحادات، وتصاعدت الأمور بشكل غير مسبوق باحتلال دور الاتحادات المهنية، في غاشية تمّت بليل من أول أمس ونهار أمس، وصَنَع بقدرة قادر احتقاناً وحالة استقطاب جديدة ما كان أهل الحكم في حاجة إليها، فإن كان المؤتمر الوطني قد حُلّ وسيتبع حله رد فعل محلي سيضطرد دفعه، فإن النقابات والاتحادات ببُعدها العمالي والمهني لا ينتهي رد الفعل في الداخل وحده، فقد تعدّاها إلى خارج الحدود لوجود امتدادات وارتباطات دولية وإقليمية تتعلّق بعملٍ وواجبات لها صِلة بعضوية السودان بالفضاء الخارجي في إطار العمل غير الحكومي، وما يتعلق بتنظيمات العمل النقابي الدولي في كل مجالاته، فضلاً عن أن الصراع مع النقابات كما ابتدرته السلطة القائمة لا يتم في إطار قانوني أو مشروعية تستند عليها السلطات الحكومية، فهو عمل سياسي لا علاقة له بالقانون واستهداف للحركة النقابية، دون أن ينشأ مُعترك حقيقي بين النقابات القائمة وأهل السلطة ..
إذا كانت هذه الإجراءات التي تجري الآن ومُداهمة الدور ليلاً وتحت جنح الظلام وإغلاقها وإيقاف نشاطها وتضييع حقوق القواعد النقابية وخدماتهم الاجتماعية، إذا كانت كل هذه الأفاعيل مُبرّرة في ظل سلطة تدّعي الحرية والعدالة وحكم القانون وإرساء قواعد الديمقراطية ، لقُلنا إن الأرض مادت وظهرت أشراط ساعة الإياب لرب العباد!! فما يجري أمامنا هو بحق انتكاس ورِدّة كاملة، لم يعهدها السودان إلا في حالات الانقلابات العسكرية التي تأتي بقوة السلطان وبالأحذية الثقيلة لتُهِيل التراب على الحركة السياسية والأحزاب، ويمتد حد نصلها للنقابات والصحافة، فما بال اليوم في ظل الفترة الانتقالية التي قد تقود التحوّل الديمقراطي، ومع شعارات برّاقة للحرية والعدالة والسلام، تُذبَح الحركة النقابية بسكين صدئة مسمومة، وسيُصيب جسد الوطن كله مرضٌ عُضال نتاج هذا الذبح والقتل العمد، لأن النقابات والاتحادات المهنية تطوّرت في الفترات الماضية من كيانات مطلبية إلى هيئات ذات تأثير قوي وفاعل ومنتج، تُقدّم أفضل الخدمات الاجتماعية لأعضائها وتُسهم في تذليل صعوبات الحياة وتطوير المهن بالتدريب المستمر والعمل على كسب مصالح مُرسلة للعاملين والمساهمة في صياغة تشريعات مُنصفة وجيّدة تتقارَب مع المعايير الدولية في مختلف مجالات العمل .
بما أن النقابات والاتحادات مُنتخَبة من جمعياتها العمومية، فلن تستطيع أي سلطة مهما كانت باطِشة أن تُصادر حق العاملين وأصحاب المهن المختلفة في تنظيم أنفسهم واختيار كياناتهم النقابية من منطلق الحرية وقاعدتها، وتدخّل السلطات الرسمية هو سابقة خطيرة لن يمحوها التاريخ، وستظل لطخةً في تاريخ من شارَك فيه، ووصمة عار في جبين من حرّض ودعا إليه، ولا سبيل ولا مخرج من هذا الوضع المأزوم حقاً، وحتى لا يتفاقم وتتضاعف آثاره أن ترفع الدولة يدها فوراً عن النقابات والاتحادات وتتركها وشأنها، وتخرج من هذه الدائرة، وتكتفي بما نظّمه القانون، فالجمعيات العمومية، هي صاحبة الحق في كل ما يتصل بهذه الكيانات غير الحكومية، والعالم كله يُراقب هذه المذبحة ..
ونقول لأذكياء اليسار ومن يقفون وراء هذه الكوارث السياسية، إذا كانت كل النقابات والاتحادات ولجانها التنفيذية ومجالسها هي واجهات للمؤتمر الوطني، فهل يعني ذلك أنكم قد قُمتم بتفريغ هذه الكوادر وإهدائها لحزب يعمل تحت الأرض، وكلهم كوادر مؤهلة ومدربة وذات علاقات أفقية ورأسية جيدة مع عضويتها وقواعدها ومستويات الخدمة المدنية والقطاع المهني، وتمتلك خلال سنوات عملها النقابي علاقات واتصالات بالمنظمات الإقليمية والدولية والهيئات الحقوقية ومنظمات حقوق الإنسان، فهل بعد تفريغ هذه الكوادر ستكون المعركة السياسية فوق وتحت الأرض ميسورة وسهلة مع إخفاقات الحكومة في حل مشكلات المواطنين وإنقاذ الاقتصاد وعدم القدرة حتى اللحظة عن إجازة مشروع الموازنة والعام قد انقضى ..!!!!؟