* من مقولات الكاتب الإيطالي الشهير البرتومورفيا “من رماد الهزيمة تُنسج خيوط فجر الانتصار”. والجزائر التي هزم عسكرها الديمقراطية، ووضعوا المتاريس للحيلولة دون وصول الإسلاميين للحكم قبل أكثر من ربع قرن من الزمان وأغرقوا الجزائر العاصمة والبليدة ووهران وتوزو أوزو في برك من دماء الأبرياء هي الجزائر التي تعلم جيشها من تجاربه البائسة أن الديمقراطية هي القيمة المفقودة في العالم الثالث، وأن حكم العسكر وبطشهم لن ينجب غير التشوهات الخلقية في المجتمع ويقعد الأمة عن النهوض من رماد الهزيمة التاريخية لمشروعاتها الأممية من الناصرية إلى البعثية والإسلامية والشيوعية”.
العسكر في الجزائر هم من رفضوا تأجيل الانتخابات بعد إزاحة بوتفليقه الذي أرغمته على التنحي الجماهير الثائرة في المدن والأرياف وحملته على التنحي والانضمام لنادٍ صغير يضم الرؤساء العرب السابقين، لأن العرب لهم تقاليدهم في قتل الرؤساء السابقين، إما على طريقة القذافي وعلي عبد الله صالح، أو بالموت حسرة مثل زين العابدين بن علي.
رفض الجيش في الجزائر كل محاولات إقصاء الحرس القديم من رجال بوتفليقه وحرمانهم من حق الترشح وقيادة البلاد إلا في حال وجود بينة فساد أقر بها مقترفها، أو صدر حكم قضائي بها، ولذلك جرت الانتخابات في الجزائر وسط احتجاجات واسعة من قبل تيار الإقصاء والعزل والانتقام من كل رجال العهد القديم، وهذا التيار العلماني تمظهر هناك في سياقات شعبية عالية الصوت مثيرة للجلبة والضوضاء .
لكن المؤسسة العسكرية رفضت الإذعان لها والسير في دربها، وأثبت الجنرال بن صالح بأنه عصي الانقياد، وما هو هوين سهل قياده وتركيعه وإرغامه علي تبديل قناعاته.
اختار الشعب الجزائري بمحض اختياره عبد المجيد تبون رئيساً للبلاد، وينتظر أن يؤدي القسم الدستورية بعد غدٍ الخميس رئيساً الجزائر التي تنتظرها فرحة أخرى، ولكن على الصعيد الرياضي بفوز مرتقب لغزال الصحراء في الملاعب الإنجليزية رياض محرز لاعب المنتخب الجزائري الفائز بكأس الأمم الأفريقية الأخيرة التي أقيمت في مصر والنجم العربي الأكثر توهجًا في الدوريات الأوروبية مع نادي مانشستر سيتي، ويتوقع فوزه بجائزة أفضل لاعب أفريقي للعام ٢٠١٩ إذا لم يسرقها من محارب الصحراء أسد الترنجا ساديو ماني لاعب ليفربول الإنجليزي، ولكن الجزائر ضمنت لنفسها وشعبها رئيساً منتخباً من شعب عانى كثيراً من رؤية الشمس تشرق في وهران والعاصمة الجزائر والواحات والصحارى الجافة الغنية بالغاز والنحاس، بلد علمت المستعمر الفرنسي كيف يموت الرجال من أجل الأوطان، وكيف تدافع النساء عن الشرف العربي والإسلامي، وقد أضحت جميلة بوحريد أيقونة لجيل التحرير.
(لم تبلغ سن العشرين واختارت جيش التحرير )!
والجزائر بعد انتخاب عبد المجيد تبون تجلس لامتحان آخر للخروج من مأزق الصراع العدمي وقبول دعوة الرئيس المنتخب بالمصالحة الوطنية والحوار السياسي، وأيد حزب الحرية والعدالة دعوة الحوار وتجاوز حالة الانسداد الراهنة، وأعلن بن فليس الذي نافس تبون في الانتخابات الماضية عن اعتزاله العمل السياسي، ولكن المرشح الإسلامي عبد القادر بن قرينه الذي حصل على المرتبة الثانية في الانتخابات الرئاسية، دعا حزبه حركة البناء لإعفائه من كل مناصبه في الحزب في خطوة شجاعة ومطلوبة من كل من يقدم نفسه لشعبه ولا يختار الشعب عليه الاعتراف بوقع الهزيمة ومغادرة الساحة وتركها لقادة جدد .
واختار الملك المغربي محمد السادس ببرقية للرئيس النتخب تهنئته له بالفوز بثقة الشعب الجزائري ويبدي فيها حرصه ورغبته في فتح صفحة جديدة بين الأخوين الجارين اللذين فرّقت بينهم الصحراء الغربية بدلاً من توحيدهما.
ويُعَد الرئيس عبد المجيد تبون من رجال بوتفليقة المخلصين غير الملوثين بالفساد المالي والأخلاقي ويحظى بثقة العسكر وقطاعات عريضة من الشعب باستثناء منطقة القبائل الصحراوية التي شهدت في الشهور الماضية اضطرابات حالت دون إجراء الانتخابات في بعض مناطقها .
وإذا كانت تونس قد صفعت التيار الفرانكفوني في اختيار رئيس راديكالي يعتز ويفخر ويباهي بأصوله العربية وانتمائه الحضاري للإسلام كدين والعروبة كلغة وثقافة، فالجزائر اختارت رئيسها تبون وفقاً لتقديراتها الظرفية، وهو شخصية متماهية مع التيار الفرانكفوني العلماني، ولكنه يخاطب القضية الوطنية من منصة التصالح والحوار لا المواجهة العدمية التي ارتوت منها الجزائر ضحايا ودماء حتى جفت دموع واسيني الأعرج، وأصبح المعطف الأزرق يليق بأميرة الرواية العربية أحلام مستغانمي التي تكتب الآن الفصل الأول لقصة خروج وطن من تحت أحذية العسكر، الثنائيات المدمرة بين علماني وإسلامي على قول د. التجاني عبد القادر حامد، وهو مفكر سوداني جعل من مالك بن نبي شيخه وقدوته. ونحن في السودان نتوق لجعل تجربة بن تبون في عبور ألغام الانتقاميين هادياً لنا لتجنيب بلادنا مصيراً مشاه الشعب الجزائري حافياً ولن يحصد منه إلا الحطام والموت المفزع.