بما جرى أمس لن يكون الواقع السياسي كما كان، فالسودان يشهد تطورات مهمة يتغير بموجبها المشهد العام بسرعة لم تكن متوقعة، ويُرجّح أن تقود حالة الاحتقان الحالية إلى تحوّل أكبر واستبدال قواعد اللعبة السياسية بأخرى، بحدوث تكافؤ في ميزان القوة الشعبية والاستقواء بالشارع، ولولا سوء تقدير مجموعة “قحت” الحاكمة والمُستقبَح في طريقة إداراتها، لكان التحوّل الحالي بطيئاً، ولما تمكّن مخالفوهم من إعادة تعبئة الشارع من جديد ضدهم في هذا الوقت القصير، ولم تستفِد الحكومة الانتقالية الحالية وحاضنتها السياسية من قراءة التفاعُلات الاجتماعية والسياسية التي أفرزها سوء التقديرات والنزوع غير الراشد إلى الإقصاء ومحاربة الآخر والضيق به وإشاعة روح التشفّي والانتقام، ومحاولة استغلال القانون وتسييسه وإثارة الكراهية وخطابها المُستَنكَر وجر الساحة السياسية إلى مواجهات قد تُولِّد عُنفاً وعُنفاً مُضاداً ..
لم يكُن مناوِئو الحكومة الانتقالية في حاجة إلى جهد خارق وكبير، لتعبئة الشارع ودعوته للخروج، فهناك قوس قزح كبير من الأحزاب والقوى الحزبية والاجتماعية، تضرّرت من حُكم الأقلية اليسارية التي استغلّت الشارع أيضاً، وسرقت ثورة الشباب وبدأت في تنفيذ خطل سياسي أيدولوجي جامح، مما ولّد تلقائياً الشعور المُقابل وحفّزت كل من يقف دفاعاً عن حريته وعقيدته ودينه للخروج، وتوفر دافع لا يمكن كبح جماحه أو دفعه عندما يكون الخروج لربٍّ ودين ونصرةٍ لعقيدة ومنهج ودفع لظلم، ورد لمؤسسات الدولة من لوثة التسييس اليساري المُمعِن في التطرّف .
عندما تمّت الدعوات للتظاهُر والتراشق بالشارع ، تناسى اليسار وخاصة الشيوعيين والبعثيين وبقية أتباعهم وناشطيهم، أن قدرة خصومهم من الإسلاميين والمجموعات المُتحالفة معهم على التنظيم والمنازلة السياسية قدرة كبيرة لا تُجارى، وكان بإمكان اليسار أن يعمل بهدوء دون شطط وغلو خلال الفترة الانتقالية وعدم الدخول في مواجهة مبكرة، لكن انسداد أفق وانغلاق البصيرة السياسية جعلت الحكومة الانتقالية المُسيطَر عليها من الشيوعيين تتّجه للقضايا الخلافية ونقاط المواجهة بدلاً من محاولات إصلاح الاقتصاد والتعامُل مع قضايا المواطنين المُلحّة والتفرّغ لتقديم تجربة جيّدة في إدارة الدولة وتأسيس الفترة الانتقالية على ما يجمع اللُّحمة الوطنية، ويُجنّب البلاد خطر المواجهات والصدام والانحراف إلى حلبة الصراع الأيديولوجي التي لا تُبقِي ولا تذَر ..
وجد التيار الوطني والإسلامي العريض، الساحة أمامه تزداد احتقاناً وإحباطاً من أداء الحكومة الانتقالية الضعيف، لضعف كادرِها، وقلة حيلتهم، واستطاع هذا التيار بقُدراته التنظيمية وامتداداته الأفقية وعمقه الشعبي، لتجريد حملته السياسية ضد خصومه التقليديين الممسكين بمقود السلطة، وكان الإسلاميون عقب سقوط نظامهم السابق قد تعاهدوا وقرروا أن يتفرغوا لمراجعات عميقة لهذه التجربة والابتعاد عن شهوة السلطة ريثما ينتظموا من جديد في منظومة مُبرّأة من أخطاء الماضي وبعد جراحة إصلاحية تُعيد من جديد شحذ الهمم والخلوص إلى رؤى فكرية جديدة ومراجعات لازمة، وبدأوا هذه المراجعات بالفعل، لكن خصمهم السلطوي لم يترك لهم فرصة لإتمام مراجعاتهم والانكفاء على أنفسهم، فعمل على استفزازهم وجرّهم من جديد إلى معركة طالما تَجنّبُوها …
الآن تتجرّد الساحة السياسية من كل غُلالاتها الشفّافة التي كانت تستر بعض المكتوم من خلافاتها، والمُؤجّل من صراعاتها، وحالة الاستقطاب الحالية لا تتوقّف عند محطة واحدة، والأيام القادمة حبلى بالكثير المثير الخطِر، وربما ستكون معركة كسر العظم وخاصة عظم الظهر هي الفاصلة، لم يعُد هناك من يدّعي أنه يمتلِك الشارع، لكلٍّ شارعه، لكن العزيمة والاستعداد هما الفيصل في نهاية الأمر ..