الخرطوم: مريم أبشر
بعد سنوات من العزلة الدولية الخانقة بسبب سياسات النظام السابق المتصلة بالإرهاب وملاحقات الجنائية والعقوبات ووضعه على اللائحة الأمريكية للدول المارقة، بدأ السودان يستعيد أنفاسه مع حكومة ثورة التاسع عشر من سبتمبر الانتقالية التي يرأسها الدكتور عبد الله حمدوك, منفتحاً على المستويين الإقليمي والدولي، متخذاً من الثورة الملهمة زاداً ومن خبرة وعلاقات رئيس الحكومة الالنتقالية الدكتور حمدوك مع المنظمات منطلقاً نحو إحياء علاقات دولية تبنى على المصالح المشتركة وتبتعد عن المحاور وتجعل فائدة السودان أولاً، وأخيراً هي الهدف والمقصد. فحكومة دكتور عبد الله حمدوك وضعت ومنذ ضربة البداية الأولى إصلاح التخريب الذي طال العلاقات الخارجية ومعالجة هذا الملف الهام أولويتها القصوى خاصهة وأن المجتمع الدولي المنبهر بالثورة السودانية وسلميتها، بداً مستعداً لمد جسور التواصل معها، ووفقاً للمتابعات فإنه ومنذ اللحظة الأولى لأداء لرئيس الوزراء الدكتور حمدوك القسم رئيساً للحكومة الانتقالية، فتحت الخرطوم أبوابها لاستقبال مسؤولين دوليين بأوزان ثقيلة تقاطروا وتسابقوا لزيارة السودان وفتح صفحة جديدة معه، بعد قطيعة امتدت لسنوات طويلة، فكانت زيارة وزير الخارجية الألماني هايكو ماس هي الأولى أعقبة رصيفه الفرنسي جان لودريان إلى الخرطوم، هما الأبرز لمسئولين أوربيين يزورون السودان في العهد الجديد.
ثم توالت الزيارات، حيث استقبلت الخرطوم وزير الدولة للتعاون الدولي السويدي بير أولسون وغيره من كبار الشخصيات ومسئولى المنظمات الدولية والإقليمية.
(1)
جوبا.. نصف (الخرطوم) الحلو
ابتدر رئيس الوزراء عبد الله حمدوك أولى محطاته الخارجية بزيارة دولة جنوب السودان، وقال إنه سعيد بأن تكون جوبا أولى محطاته الخارجية باعتبارها وطنه الثاني، وأجرى أول مباحثات خارجية له مع الرئيس الجنوب سوداني سلفا كير ميارديت حول العلاقات مع البلدين ومعالجة القضايا العالقة بين الطرفين منذ الانفصال في 2011. وكان برفقته عدد من الوزراء والمسئولين، وصرح حينها أن الخرطوم تطمح لإقامة علاقات إستراتيجية راسخة ومتطورة مع الجارة جوبا وعلاقات بين الشعبين لا يحدها سقف، وتطرقت الزيارة لملفات النفط وحرية الحركة والتنقل للناس والبضائع بين البلدين.
جوبا من ناحيتها قابلت زيارته بترحيب كبير، وقال نائب رئيس حكومة الجنوب إن حمدوك “يعتبر الشخص الأمثل لقيادة شعب السودان في هذه المرحلة، فهو يمتلك الخبرة الكافية لإدارة الأوضاع خلال المرحلة الجديدة، فضلاً عن ذلك أن لديه معرفة قديمة بالجنوب لجهة أن لديه علاقات مع الحركة الشعبية، بجانب أنه كخبير اقتصادي يمكن أن يضع معالجات حقيقية لكافة المشكلات الاقتصادية التي يعاني منها البلدان. واعتبرت الحكومة الانتقالية جوبا المكان الأنسب لاحتضان مفاوضات السلام بين الحكومة وحركات الكفاح المسلح، فكان أن التقطت القفاز وجرت جولتان والآن تجري الجولة الثالثة على أمل أن يتحقق الاختراق المرتجى.
(2)
نيويورك.. السودان على المنصة الأممية
وبعد نحو 30 عاماً من العزلة والقطيعة بين المسؤولين السودانيين والمجتمع الدولي، أفلحت الثورة في انتشال السودان من القطيعة الدولية، وهو ما ألقى بظلال قاتمة على كل أوضاع السودان، وتمكن رئيس الوزراء عبد الله حمدوك في واحدة من أعظم إنجازات الانفتاح الخارجي ومن منصة الجمعية العامة العامة للأمم المتحدة بنويورك، إعلان أول ظهور دولي له ممثلاً للسودان، ليفتح صفحة جديدة للخرطوم في سبتمبر الماضي مع المجتمع الدولي، لتنطوي بعدها حقبة ألحقت بالسودانيين أضراراً كبيرة بسبب وضع السودان على قائمة الإرهاب وفرض عقوبات اقتصادية عليه.
وانضم الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو جوتيريش خلال اجتماعات الجمعية العامة في سبتمبر الماضى للأصوات الداعية لرفع اسم السودان من الدول الراعية للإرهاب، ورفع العقوبات المفروضة. وهو ذات الطلب الذي طرق عليه خطاب حمدوك بجانب تقديم الدعم، وسلط الضوء على الكثير من ملفات القضايا التي ستكون محور التغيير الذي حدث في السودان، أبرزها السلام وانتهاج سياسة متوازنة تسعى لتحقيق مصالح شعبه، بجانب علاقات عمل مشتركه خاصة مع جيرانه العرب والأفارقة والعالم.
وشهدت ذات المشاركة لقاءات في غاية الأهمية مع كبار المسئولين الدوليين المشاركين في الاجتماعات.
(3)
الرياض.. أولى المحطات العربية
بعد الزيارة الأولى لحمدوك لجوبا، جرت زيارة مشتركة بينه ورئيس مجلس السيادة السوداني عبد الفتاح البرهان إلى الرياض، حيث أجريا مباحثات مع الملك سلمان بن عبد العزيز في الرياض، تناولت سبل تطوير التعاون بين البلدين، كما أعلن عبر وكالة الأنباء السعودية تمنى عبرها سلمان للسودان السلام والازدهار.
وتعد زيارة الرياض أول زيارة خارجية مشتركة لرئيس مجلس السيادة ورئيس الوزراء منذ تكوين هياكل السلطة الانتقالية في السودان في أغسطس الماضي، وتعهدت المملكة وفق تصريح منسوب لوزارة خارجيتها بالعمل على مساعدة السودان على رفع اسمه من القائمة الأميركية للدول الراعية للإرهاب.
(4)
أبوظبي.. محطة عربية إستراتيجية
زيارة الرياض أعقبتها مباشرة زيارة مشتركة أخرى لرئيس الوزراء ورئيس المجلس السيادي لدولة الإمارات العربية المتحدة، عقدا خلالها لقاءات مع القيادات الإماراتية، بحثت تعزيز العلاقات بين الخرطوم وأبوظبي.
والتقى حمدوك، في أبوظبي، خلال تلك الزيارة بمقر السفارة السودانية، وناقش معهم، في حضور وزيري الخارجية أسماء عبد الله والمالية إبراهيم البدوي، الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية الراهنة في السودان.
(5)
باريس.. لقاء (نور) في عاصمة النور
تعد زيارة رئيس الوزراء الدكتور حمدوك لباريس من أهم وأنحج زياراته الخارجية، حيث وصلها نهاية سبتمبر الماضي بناء على دعوة خاصة تلقاها من رئيس الوزراء الفرنسي إيمانويل ماكرون، الذي كان يخطط أن تكون باريس أولى محطات حمدوك الخارجية مبدياً إعجابه الشديد بسلمية الثورة السودانية، غير أن أولويات خاصة برئيس الوزراء وانشغال ماكرون بوساطته بين واشطن وطهران، أخرت الزيارة لعدة أيام. وبحث اللقاء الذي جمع بين حمدوك وماكرون سبل دعم وتطوير العلاقات الثنائية بين الخرطوم وباريس، وقدمت باريس للخرطوم حينها دعماً مالياً للحكومة الانتقالية بلغ 60 مليون يورو، وأعلن وزير المالية الفرنسي لومير سعيهم لإعادة إدماج السودان في المجتمع الدولي، وفتح المجال أمام الشركات الفرنسية للاستثمار في السودان، وأحدثت الزيارة اختراقاً بلقاء لم تكن باريس بعيدة عن ترتيبه بين حمدوك ورئيس حركة تحرير السودان بدارفور عبد الواحد نور، رغم أن اللقاء لم يتم بصفته رئيساً للوزراء، إلا أنه شكل نقلة في التعاطي الجاد مع ملف السلام.
(6)
أديس.. الوسيط (الأفريقي) المُحبّب
في الأسبوع الأول من أكتوبر المنصرم سجل رئيس الوزراء عبد الله حمدوك زيارة إلى العاصمة الإثيوبية، أديس أبابا وهي أول زيارة رسمية له استقبله فيها بمطار أديس رئيس الوزراء آبي أحمد الوسيط الذي نال رضى المُكونين المدني والعسكري وأسهم في وصول الأطراف لوثيقة دستورية هي الهادي حالياً للحكومة الانتقالية في تسيير دولاب المرحلة.
الزيارة استغرقت يومين، ركزت على العلاقات الإستراتيجية بين البلدين. حمدوك لم ينس في تغريدته الدور العظيم لأثيوبيا في دعم ثورة الشعب السوداني المجيدة، وأكد التزامه تجاه تنمية علاقات التعاون المشترك في كافة المجالات بين بلدينا الشقيقين.
(7)
أسمرا.. مدخل سلام الشرق
وزار حمدوك في نوفمبر الماضي العاصمة الإرترية، وأجرى محادثات مع الرئيس الإرتري أسياس أفورقي، ركزت على كيفية توثيق التعاون وتسهيل حركة النقل والتجارة الحدودية بين البلدين، وما يمكن أن تساهم به إرتريا في عملية السلام وتحقيق استقرار السودان، وهي تعد مدخلاً للسلام في شرق السودان، واعتبرت الزيارة بداية صفحة جديدة في العلاقات.
(8)
واشنطن.. ترفيع واختراق الشائك
وأنهى رئيس الوزراء الأحد الماضي زيارة هي الأولى له لواشنطن أجرى خلالها جملة من اللقاءات مع كبار المسئولين و صناع القرار الأمريكي بجانب الإدارة الأمريكية وأعضاء الكونغرس، ووصف حمدوك زيارته لأمريكا (بالتاريخية)، لافتاً إلى أنها تمت بناء على دعوة من واشنطن. وأضاف: “حين بدأنا التفاوض مع أمريكا كانت هناك 7 شروط (لرفع العقوبات)، أصبحت شرطاً واحداً. اتفقنا حول المسألة المتعلقة بتوصيل الإغاثة، حقوق الإنسان، الحريات الدينية، العلاقة مع كوريا الشمالية، البدء بشكل جاد في عملية السلام بالسودان. وأضاف ما تبقى هو التعاون في مجال الإرهاب، وهذا مستمرون فيه.
وعقد مدير جهاز المخابرات الفريق أبو بكر دمبلاب اجتماعاً مهماً جداً، في وكالة الاستخبارات المركزية، أما الموضوع الوحيد الباقي، فهو تعويضات ضحايا العمليات الإرهابية من الأمريكيين، وفي حوارنا معهم، قلنا: “إننا ضحايا أيضاً للإرهاب”، وهم يردون بأن هناك مسئولية للدولة، والآن نحاول تقريب الأمور، وهدفنا توقيع اتفاق في هذا الصدد من أجل تحصين الدولة السودانية، ضد رفع أي قضايا أخرى”. وقال حمدوك إنه لم يتم اتفاق حول حجم التعويض، وأن الأمر فيه اخذ ورد، وأن المطالبات بدأت بـ 11 مليار دولار، وفق قرار قضائي، وتوصلينا لمئات الملايين، وأن العملية قد تأخذ وقتاً وبعد الرفع من القائمة فوراً تبدأ إجراءات رفع العقوبات”. وذكر أن الزيارة هدفت لتطوير العلاقات الثنائية واتفقنا بعد 23 عاماً على ترفيع التمثيل الدبلوماسي، وهو خطوة تؤسس لبداية جديدة،
وقد أتاحت الزيارة فرصة للالتقاء بمؤسسات التمويل العالمية للتفاكر معها حول رفع العقوبات وإعفاء الديون البالغة أكثر من 60 مليار دولار.
جدير بالذكر أن عملية الرفع من القائمة تبدأ بتوصية من الإدارة الأمريكية ثم ينظر فيها الكونجرس، الذي كان قبوله للمسألة مطمئناً جداً وفق ما أشار إليه الدكتور حمدوك .
(9)
رؤية سياسية.. زيارات مهمة وانعكاسات إيجابية
محللون سياسيون متابعون لتحركات حمدوك الماكوكية الرامية لإصلاح الخلل في علاقات السودان الخارجية، وصفوا تلك الزيارات بأنها مهمة، وستكون لها انعكاسات إيجابية للغاية في علاقات السودان الخارجية، نظرا للزخم الكبير الذي حظيت به، باعتبار أنها تشكل البداية الصحيحة لإصلاح العطب الدبلوماسي، والانطلاق نحو تأسيس علاقات خارجية مبنية على التعاون الإيجابي والاحترام المتبادل والعيش ضمن مجتمع دولي تلتقي أجندته حول تطلعات السلام والأمن ومحاربة الإرهاب والتبادل الاقتصادي الذي يخدم الشعوب، بجانب تغليب مصالح السودان وشعبه على كل الاعتبارات الأخرى.
وبعيداً عن سياسة المحاور التي دفع ثمنها السودان في العهد السابق، الدكتور والمحلل السياسي عبده مختار وصف الزيارة الأخيرة لحمدوك لواشنطن بالتاريخية وأنها أحدثت اختراقاً كبيراً بعد انقطاع طويل، وقال لـ (الصيحة): رغم أن الزيارة لم تحقق كل المطلوب، لكنها تمثل خطوة أولى في طريق طويل. لافتاً إلى أن رفع اسم السودان من القائمة يحتاج لترتيبات قانونية في الكونغرس الأمريكي، وأضاف: حمدوك نجح في مخاطبة مفاتيح السياسة الأمريكية ونتوقع النتائج في المستقبل القريب.
(10)
رؤية دبلوماسية.. حمدوك يصوّب في المرمى
زيارات المسئولين لاي دولة بحسب مصدر دبلوماسي ضليع تحدث (للصيحة) يجب أن تحكمها علاقات الدولة مع الدول وما تحتاجه منها لتحسين ظروف بلادهم الاقتصادية والأمنية، وما يجلبه من مصالح وما يدفعه من ضرر، رئيس الوزراء في كل رحلاته الخارجية وضع مشاكل السودان وهمومه وتعقيدات أوجاعه نصب عينيه، وهو يرسم خريطة تحركاته الخارجية التي بدأها بدول الجوار الافريقي والعربي لاعتبارات معروفة تتعلق بالسلام والاستقرار وصولاً لامتدادات المعارضة السياسية بهدف تحييدها وكسبها إلى جانب النظام الديمقراطي الجديد، أما الزيارات العربية فتتعلق بالأمن الاقتصادي والغذائي، وتأمين معيشة وقود الثورة، والتأكيد على أن الشعب أولوية، والبحث عن حلول لمشاكل السودان الاقتصادية.
أما زيارته الأخيرة لواشنطن، فقد أرسلت شحنة عالية من التفاؤل لمستقبل التعاون بين واشنطن والخرطوم، وما يمكن تقديمه من مساعدات عبر صور شتى تساهم في إحداث الاستقرار المطلوب، وتهيئة الأجواء للانطلاق نحو التنمية والنهوض الاقتصادي بما يكفي الناس حاجتهم ويؤمن معيشتهم مقابل سنوات المعاناة العجاف التي عاشوها في ظل النظام البائد.