السلامُ المُزدَوَج
لا يُمكن تحقيق السلام في السودان دون أن يسير في خطٍّ مُتوازٍ، وفي نفس الوقت مع السلام في دولة جنوب السودان، وقيمة ما يجري الآن في جوبا، أنه تكامُل في مشروعي السلام ووقف النزاعات المسلحة في البلدين الجارين بكل ما تربطهما من روابط وأمشاج.
ويبدو من خلال الجولة الحالية التي تجمع كل الحركات المسلحة عدا واحدة مع الطرف الرسمي السوداني، ووجود د. رياك مشار زعيم المعارضة الجنوبية المتواجد في جوبا أيضاً، أن الارتباط العضوي بين السودان وجنوب السودان لا يُمكن فصم عُراه أو قطع ما وُصِل منه، فالحقيقة الموضوعية أن الأمن القومي لكل بلد لا يتحقّق إلا من خلال الأمن القومي للبلد الآخر، وهذه بالطبع حالة تداخُل وتكامُل استراتيجي لا فكاك منها، ومن الضروري أن يفهم إلى أي مدى تتجسّد حاجة كل طرف للآخر، فجوبا لا تحتضن الأطراف السودانية لتصنع سلاماً مرتجى في الخرطوم فقط، بل هي أيضاً تقطف ثمرة السلام المُتدلّية من أغصان الخرطوم .
ولأول مرة في علاقة البلدين منذ انفصال جنوب السودان عن شماله، تتقارب المصالح المشتركة ويدنو كسباً مشتركاً، فلو استطاعت وساطة جنوب السودان أن تنجح في إنهاء الحرب وتوقيع اتفاقية سلام بين السودانيين المتواجدين هناك يُمثلون آمال وتطلّعات شعبهم، فإنه بالمُقابل ودون أية عراقيل أو إبطاء أو تأويلات، سيتحقّق سلام جنوب السودان الذي وُقّع اتفاقه من قبل في الخرطوم، وسيجري تنفيذه على الفور، حيث استطاعت التحرّكات الأخيرة والزيارات الماكوكية لنائب رئيس المجلس السيادي ووفده الرفيع أن تضع في الواجهة تطلّعات مواطني جنوب السودان في السلام والتنمية والاستقرار وجعلته في مُتناول اليد .
هذا الواقع الجديد يؤكد حقائق راسخة تستحق التوقّف عندها، لن يهنأ السودان بالسلام إذا ظلت الحرب مستعرة والقتال لاهباً في جنوب السودان، فكل الأوراق للحالتين في الجانبين يحملها كل طرف ويستطيع بها مساعدة الطرف الآخر، فقد وَجدَت الطريقة البنّاءة في إدارة ملف كل جانب فرصتها لتتقدّم للأمام خطوات ذات أثر واضحٍ نحسّ بها ونعيش نتائجها، فلولا الإرادة السياسية القوية والفاعلة لدى قيادتي البلدين لما وصلت الأمور إلى هذا التطوّر الإيجابي وبات السلام أقرب وتلمسه الأيدي وتتحسّس ملامحه الشاخصة .
ومن ذلك نأخذ مثلاً، أن قضية الترتيبات الأمنية والعسكرية لكل طرف، لها تداخُل وثيق في الجانبين، فالحركة الشعبية قطاع الشمال في شقيها الاثنين، يرتبط مصيرها إذا تم التوافُق عليه بالتدابير المُتعلقة بجنوب السودان سواء كان بفك الارتباط أو رفع الجيش الشعبي في جنوب السودان يده عن قوات الحركة الشعبية ذات الارتباط التاريخي بالجيش الشعبي، ولا يمكن إغفال حالة المُعارضة الجنوبية التي ظلّ وجودها والمساعدات التي تصلها محل اتهام دائم من جوبا أن السودان يُقدّم دعماً لها ويسند وجودها، فأي حسم لملفّيْ الترتيبات العسكرية والأمنية في أي طرف سينعكس على الطرف الثاني ولا يتأخر عنه .
ونُلاحظ هنا أن الرئيس الجنوب سوداني سلفاكير ميارديت يُبدي حرصاً دائماً على متابعة جولات التفاوض بنفسه واستقبال الضيوف ودفع العربة إلى الأمام، بينما يتهيأ هو بنفسه لجعل السلام حقيقة واقعة في بلده بمساعدة السودان، ويفهم السيد سلفاكير بِبُعد النظر لديه أن الأوضاع الراهنة في السودان وجنوب السودان تفرض عليهما معاً أن يسيرا في اتجاه السلام المُزدوج والعملية التبادلية المنتجة للسلام، فقد جرّبت كلٌّ من جوبا والخرطوم الوساطات الإقليمية والدولية وتدخّلات العواصم الكبرى، فما تحقّق لهُما إلا مزيد من الخلاف واستطالة أمد الحرب، وعندما جرّبتا العمل المشترك المباشر سارتا في الطريق الصحيح وتكاد الروح السودانية الواحدة تصل إلى مرافئ السلام .