ردٌّ على من تعدّى على جناب الصحابة الكرام
من النوابت الشاذة التي يروّج لها بعض الزائغين عن الحق والهدى دعواهم أنه يمكن أن يستغنى عن فهم الصحابة والتابعين للنصوص الشرعية، فهناك دعوة شيطانية غايتها التفلّت عن العمل بالشريعة تمتطي هذه المطيّة وتطالب بفهم جديد وقراءة حالية للنصوص الشرعية، والاستغناء عن فهم أصحاب القرون المفضلة من الصحابة والتابعين، ولا يقصد هؤلاء الداعون بدعوتهم الجانب (المتغير) في الأحكام الذي يختلف باختلاف الزمان والمكان، وإنما يقصدون (الثوابت) في الأحكام الشرعية حتى دعا بعضهم إلى مساواة المرأة بالرجل في الميراث، قال بناء على أن المرأة أصبحت تعمل كالرجل!! وامتدت ألسنتهم الماكرة وكتابات بعضهم المضلّة إلى غير ذلك من الأحكام الثابتة بالنصوص الشرعية المحكمة، مما أجمع عليه علماء المسلمين جيلاً بعد جيل.. ومن العجائب أن نسمع في مقطع متداول من يقول إن إسلام الصحابة بدائي وسيأتي ناس في هذه الأمة هم أعظم علماً وقدراً من الصحابة الكرام.
وفهم السلف الصالح من الصحابة والتابعين للنصوص الشرعية هو الفهم السليم والمستقيم، وواجب على المسلمين اقتفاء أثرهم والسير على منهاجهم قال الله تعالى : (ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى ويتبع غير سبيل المؤمنين نوله ما تولى ونصله جهنم وساءت مصيراً) وقال الله تعالى: (والذين اتبعوهم بإحسان)، فإنهم من شهد التنزيل وأدركوا مقاصد التشريع وهم الأعلم بأدوات الاستنباط، ويكفي الصحابة أنهم تلقوا العلم عن النبي عليه الصلاة والسلام مباشرة، فقد اعتنى النبي صلى الله عليه وسلم بتعليمهم كما اعتنى بتدريبهم العملي في شأن الاجتهاد والاستدلال، وإنه لشرف عظيم قد ناله الصحابة الكرام بأن أفتوا وحكموا وقضوا بحضرة النبي عليه الصلاة والسلام، وفي عهده، وحظيت بعض اجتهاداتهم كما بإقرار وإعجاب من النبي عليه الصلاة والسلام.
قال الصنعاني في كتاب “إجابة السائل شرح بغية الآمل”: (ولما تعرض لمسألة اجتهاده صلى الله عليه وسلم تعرضنا لمسألة اجتهاد أصحابه في عصره بقولنا: والاجتهاد واقع في حضرته… وغيرها من فائز بصحبته.
البيت قد أفاد أنه قد وقع الاجتهاد من أصحابه في الأحكام الشرعية من الحاضر في بلدته صلى الله عليه وسلم بغير إذنه ومن الغائب ومن الوالي وغيره، وهذا هو قول الجمهور من العلماء مستدلين بأنه لو لم يجز كما قيل لم يقع لكنه وقع فكان جائزاً وهذا دليل على الجواز والوقوع.
أما في حضرته بغير إذنه فاتفاقيات قضايا عمر وهي مشهورة معروفة وأقرها صلى الله عليه وسلم بل ونزل في كثير منها آيات محققة مقررة لما قاله وهي قصص معروفة ومنه حديث أبي قتادة في يوم حنين واجتهاد أبي بكر وهي قصته معروفة ومن ذلك تحكيمه صلى الله عليه وسلم لسعد بن معاذ في بني قريظة وكان في حضرته صلى الله عليه وسلم وإذنه.
وأما اجتهادهم في غير حضرته فقصة عمرو بن العاص في غزوة ذات السلاسل وصلاته بأصحابه جنباً وأقره صلى الله عليه وسلم والقضايا في ذلك واسعة ومن ذلك قصة أمير المؤمنين علي عليه السلام في اجتهاده في أهل الزبية وإقراره صلى الله عليه وسلم له ومن ذلك قوله وقد بعثه في قصة الحاضر يرى ما لا يرى الغائب، وبالجملة من عرف السنة والسيرة لا يتردد في ضرورة وقوع ذلك وإن من خالف فلا دليل له ناهض).
وقد كان الصحابة الكرام قد تحققوا بالفقه، وتعلموا على يد النبي الكريم عليه الصلاة والسلام، فكان تحقيق التدريب العملي للاجتهاد متمماً لهم النعمة ليكونوا أوائل المجتهدين في الأمة ويضعوا كثيراً من القواعد الشرعية.
قال ابن القيم في “أعلام الموقعين”: (فالصحابة رضي الله عنهم مثلوا الوقائع بنظائرها وشبهوها بأمثالها وردوا بعضها إلى بعض في أحكامها وفتحوا للعلماء باب الاجتهاد ونهجوا لهم طريقه وبينوا لهم سبيله).
وقال الشيرازي الشافعي في “طبقاته”: (اعلم أن أكثر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين صحبوه ولازموه كانوا فقهاء، وذلك أن طرق الفقه في حق الصحابة خطاب الله تعالى وخطاب رسوله صلى الله عليه وسلم وما عقل منهما، وأفعال رسول الله صلى الله عليه وسلم وما عقل منها؛ فخطاب الله عز وجل هو القرآن، وقد أنزل ذلك بلغتهم وعلى أسباب عرفوها وقصص كانوا فيها، فعرفوا مسطوره ومفهومه ومنصوصه ومعقوله، ولهذا قال أبو عبيدة في كتاب المجاز “لم ننقل أن أحداً من الصحابة رجع في معرفة شيء من القرآن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم” وخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بلغتهم يعرفون معناه ويفهمون منطوقه وفحواه وأفعاله التي فعلها من العبادات والمعاملات والسير والسياسات، وقد شاهدوا ذلك كله وعرفوه وتكرر عليهم وتبحروه).
فلما اجتمع للصحابة الجانب العلمي النظري والجانب التطبيقي العملي كانوا أئمة في الاجتهاد والفتوى والقضاء، يقول الجويني في “البرهان”: (لم يخل أحد من علماء الصحابة من الاجتهاد في مسائل وإن لم ينقل عنهم الاجتهاد في مسألة واحدة فقد صح النقل المتواتر في مصير كل واحد منهم إلى أصل الاجتهاد في مسائل قضى فيها أو أفتى بها ثم أحداث قاعدة في الشريعة تستند إليها الأحكام بل يصدر عنها معظم الشريعة مما لا يجوز السكوت عليه لو لم يكن ثابتاً).
وقد كان اجتهاد الصحابة الكرام في كل أنواع الاجتهاد، اجتهاد في فهم النصوص واجتهاد في استنباط الأحكام من النصوص، واجتهاد في استخراج الأحكام من اجتهاد الرأي مما لا نص فيه، وهذا ظهرت فيه قواعد شرعية كثيرة تستند إلى القياس والمعقول، كسد الذرائع والمصالح المرسلة وغيرهما.
فقد كان اجتهادهم بمعناه الواسع، فإنهم قد نظروا في دلالة النصوص وقاسوا واستحسنوا وغير ذلك من العمل بالأمارات وقرائن الأحوال.
ولم يقتصر اجتهادهم على الاجتهاد الفردي فقط، وإنما ظهر بشكل جلي وواضح عنايتهم بالاجتهاد الجماعي، فكان أبو بكر وعمر يجمعان الصحابة الكرام ويعرضان عليهم النوازل والمستجدات، فكانت الشورى معلماً واضحاً في اجتهاد الصحابة الكرام.
والنماذج التي تبين أنواع الاجتهاد الذي صدر من الصحابة رضي الله عنهم في عهد النبي عليه الصلاة والسلام سواء كان اجتهادهم بحضرته أم بغيابه عنهم، وبعد وفاة النبي عليه الصلاة والسلام كثيرة، فإن أنواع الاجتهاد كانت أكثر وضوحاً، فانطلقوا في الاجتهاد بناءً على الأصول التي لديهم وبما وفقهم الله إليه من التدريب العملي، واتضحت معالم اجتهادهم نظراً لكثرة الحوادث وكثرة الداخلين في الإسلام وانتشار الإسلام في بلاد كثيرة.
فليحذر المسلمون من أصحاب هذه الدعوة التي لا يخفى نهايتها ولا تخفى مآربها، هذه الدعوة التي تغمز في الصحابة الكرام وقد صدق ابن القيم عندما قال في نونيته:
هربوا من الرق الذي خلقوا له …. فبُلوا برقِّ النفس والشيطان.