عبد العظيم والصحافة والتتار الجدُد ..!
أطلق الأستاذ عبد العظيم عوض الأمين العام لمجلس الصحافة، رسالة تحذير قوية للصحافة والصحفيين بموقفه الصارم والحازم من تدخّلات وزارة الثقافة والإعلام في اختصاص المجلس ونيّتها، وهي جزء من الجهاز التنفيذي الولوغ في الشأن الصحفي وتكبيل وتقييد حرية الصحافة، بما بدر من وكيل الوزارة في زيارته للمجلس القومي للصحافة والمطبوعات، ومن بعدها تصريحه حول مراجعة المؤسسات الصحفية والعاملين فيها، وهو موقف وهجوم جديد وسلوك ظننا أن البلاد تجاوزته منذ عهد مايو في سنواته الغُبر عندما حاول سَدَنة مايو وصُنّاعها يومئذٍ وهم الحزب الشيوعي مصادرة الدور الصحفية وتأميمها وتشريد الصحفيين، وسن قوانين تتحكّم في مسار الصحافة، فما أبأس المسعى الآن وما أحط من هذا الاقتداء الفاسد .
قبل الدخول في مناقشة هذه القضية، لابد من الحديث عن الأخ الأستاذ عبد العظيم عوض، فهو رمز من رموز الإعلام والصحافة في البلاد، وصاحب تجربة عملية ومهنية لا تُجارى أو تُبارى، عمل في نهاية سبعينيات القرن الماضي في الإذاعة السودانية حتى وصل إلى أرفع مراتبها القيادية، وعمل بالصحافة، وصار رئيساً لاتحاد الصحفيين، ونوّع وزاد من خبرته حين صار مُلحقاً إعلامياً في سفارتنا بالقاهرة، ولاقَح من موقعه كدبلوماسي رفيع ومن خلال علاقاته بكبرى مؤسسات العمل الصحفي والإعلامي في مصر بين تجربتين وفضاءاتها الاعلامية و عرف نبضهما والتحديات الماثلة وآفاق التطور، وعندما جاء أميناً عاماً للمرة الثانية في ٢٠١٥، عملنا معاً واقتربنا منه أكثر، فهو ينضح بالخبرة والدراية ويحوز على صرامة مهنية وقواطع إدارية مكّنته من العبور بالمجلس هو ورئيس المجلس الأستاذ الصحفي الكبير والشاعر فضل الله محمد، رغم ظروف المجلس وتقاطعات العمل التي جعلت المجلس على سطح الصفيح الساخن دائماً، ولا يعلم كثير من أهل الصحافة تلك المعاناة القاسية وظروف وأوضاع المجلس في ظل التعقيد الذي كان يعمل فيه .
عندما تقترب من الأخ عبد العظيم تبهرك جوانب في شخصيته ربما ظلت غير مرئية لكثير من الصحفيين، وهي قدرته على تحمل الضغوط الكثيفة من جهات شتى ومواجهتها وسعيه المستمر لمعالجة أوضاع الصحافة والدور الصحفية بالحكمة والاتصالات المباشرة والمبادرات الشخصية، وكان حائط صد لكثير منها من سيف الإجراءات الاستثنائية التي كانت تتم في عهد النظام السابق، وخضنا من منصتين متقابلتين تجربة تعديل قانون الصحافة ٢٠٠٩م، واختلفنا حول بعض مواد التعديل، فنحن كنا نحرص كاتحاد للصحفيين وجهاز نقابي على إبعاد أية مواد تحط من قدر الصحافة والصحفيين، هو كان معنا في نفس المسعى لكن لديه اجتهادات وتخريجات حول المبادئ العامة وسمات القانون ومشتملاته وما يدخل في صلاحيات المجلس ودوره، يفاجئنا في اجتماعات لجنة تعديل القانون بوزارة العدل يومذاك بدقة معلوماته وبدائله الحاضرة وحججه التي ينافح عنها بقوة ومباشرة دون أن يلجأ إلى أساليب أخرى للالتفاف أو عمل مجموعات ضغط داخل اللجنة التي كانت تضم عدداً من الصحفيين والإعلاميين والقانونيين والأكاديميين وأهل الخبرة والاختصاص، وظل يقول لنا بشكل خاص عندما نخرج أو نلتقي بعد خلافاتنا العاصفة وتباينات مواقفنا، إنه يريد تجنيب الصحافة مؤسسات الدولة الأخرى بحصر الشأن الصحفي في المجلس، وهو أخف وطأة وأرحم يداً على الصحافة في مثل هذه الظروف .
فَكوْن الأستاذ عبد العظيم يخرج من صمته، ويواجه تدخّل وكيل الإعلام في عمل المجلس، فهذا يعني الكثير، مفاده ومُؤدّاه أن خطراً داهماً وكارثة ستحل بالصحافة كمهنة، وهذا واجب الصحفيين جميعاً للتصدي لها، وهي ليست معركة عبد العظيم وحده، ومن المحزن أن وزير الثقافة والإعلام وهو من الوسط الصحفي هو من فتح الباب أمام الناشطين ووكيل وزارته الذي لا نعرف له صلة بعالم الصحافة ولم نسمع به إلا وهو على شاشات الفضائيات الباريسية لغواً يتحدث، فالوزير أزاح المزلاج وأدار كوة الباب عندما هاجم الصحف والصحفيين، فتنكّر للزمالة، وأهان شرف المهنة.
أما وكيله فهو آخر من يتحدّث عن حرية الصحافة، وعن إصلاح الصحف، فما قاله يتنافى تماماً مع قَسَمه للدولة الفرنسية التي أعطته جنسيّتها، وما أدراك ما الدولة الفرنسية ومفهومها للحرية الصحفية وموقفها من تدخل الجهاز التنفيذي في شؤون الصحافة والصحفيين .
نعود للقانون، فقانون ٢٠٠٩ الذي شارَكت في صياغته ونقاشه كل الأحزاب السياسية التي شاركت في المجلس الوطني (البرلمان) الذي تكوّن بعد اتفاقية السلام الشامل ٢٠٠٥م، الجميع شاركوا فيه بمن فيهم الشيوعيون أنفسهم، وكثير من الأصوات التي تتسيّد واجهة الأحداث، القانون أعطى مجلس الصحافة سلطات وصلاحيات وحدد مبادئ حرية الصحافة وكيفية صيانتها، ولم يخضع المجلس لسلطة الوزير ولا أي جهة أخرى، وتكوين المجلس نفسه وقرار تعيين أعضائه يصدُر عن رئيس الجمهورية كسلطة سيادية وينتخب ثمانية من أعضائه انتخاباً مباشراً من الصحفيين، وخمسة يختارهم البرلمان المنتخب، وخبراء يُعيّنهم رئيس الجمهورية، ويختار الناشرون والموزّعون ممثليهم بالاختيار الحُر، وللمجلس تقاليد عريقة وضوابط إدارية وقواعد للعمل إذا أجريْتَ أية مقارنة أو مقاربة مع نُظُم تنظيم العمل الصحفي في محيطنا العربي والأفريقي لوَجدتَ أننا في مُقدمة الروّاد في هذا المجال، ولا يمكن للسلطة التنفيذية أن تتدخل في شؤون المجلس واختصاصاته، فوكيل الوزارة بحكُم منصبه أقل قامة من التدخّل، لأن الأمين العام للمجلس يُعيّن ومسؤول لدى الجهة السيادية التي عيّنته، ولا يتبع مباشرة لوزير الإعلام إلا الإشراف العام من الوزارة بما لا ينتقص من صلاحيات المجلس وعمله.. ويتناقض هذا التدخّل من الوزارة مع مفهوم التنظيم الذاتي لعمل الصحافة، كما يحدث في بريطانيا وبعض دول الاتحاد الأوروبي أو الولايات المتحدة، وقد ذهبت دول كثيرة في العالم إلى ترك الصحافة تنظّم شؤونها وتُشارك بفاعلية في سن ووضع القوانين المتعلقة بها، وذلك حفاظاً على حرية الصحافة وصون دورها كرقيب على الجهاز التنفيذي وعين المجتمع على أداء حُكّامه وعلى المشهد العام ..
هذه البدعة الجديدة وتجاوُز القانون هو انتهاك صارخ لحرية العمل الصحفي، وتدخّل يرفضه المجتمع الصحفي كله الذي أعلن بمختلف أطيافه وتنوّعه ومواقفه ومدارسه رفضه لهذا التدخّل السافر، وهو أمر نخجل للوزير منه، وندعو الحكومة إلى وقفه فوراً، فالصحافة هي أوكسجين الديمقراطية والحرية، إذا تم التضييق عليها ضاعت الديمقراطية وسيحدُث الارتداد العكسي ..