في أغسطس ١٩ ٨٩ ، انطلقت صحيفة “السودان الحديث”، ممراتها الضيقة في مقرها العتيق،وسقوفها التي تظن أنها عما قليل آيلة للسقوط،وعتمة هذه المم رات حيث كانت تضم هذه ال دارمكاتب الصحيفة والشركة الناشرة والمطبعة وشركة التوزيع ومكاتب الصحيفة الرياضية والمجلةالسياسية )المستقبل( والمجلة الطبية ومكتبة ضخمةللاطلاع وأرشيف ونواة لدار توثيق، وموقف داخلي للسيارات ومصلى فسيح ومرافق أخرى، تضمها
مساحة تقرب من الأربعة أو خمسة آلاف متر تقريباً ،تختزل الحياة ذاتها في ذاتها، يختبئ سر الحياة كله بالنسبة لنا ونحن صغار الصحفيين يومئذ، في هذا
المكان الدافئ العبق، كان الأخ زكريا حامد الذي ودعنااليوم مبتسماً راضياً ورحل، هو درة وفاكهة هذه الدارالصحفية، صبوراً كمخبت متبتل في محرابه، رقيقاً في طبعه كأنه صيغ وخلق من رهو السحاب ، قلبه واسع فسيح كنفسه الفياضة تجتمع عنده الدنيا بما فيها
قانعاً قنوعاً بما تعطيه على استحياء، كان أزهرياً في دراسته الجامعية للصحافة، ما لا يُعرف عنه أنه ألمّ في دراسته للصحافة بالأزهر الشريف بعلوم الأصول في الفقه واقتبس ونهل من العلم الشرعي وعلوم الطبيعة الكثير، ولا تبرز هذه الاهتمامات إلا إذا تعمق الجدل في مسألة أو أشكل في نقاشٍ أمر ظهر هو برأي لم
يكن يتحسب له، تنقل في عدة أقسام بالصحيفة، ناثراً الملح والطرف والتعليقات، لكنه في ذات الوقت صارماً في أداء مهامه، عندما ينغمس في عمله تجده قد تشمّر واهتم..كان ملماً بدقائق الصحافة وأسرارها وحكاياتها وأقاصيصها الصغيرة، يمتد خيوط تواصله مع الجميع، لا تعرف له عدواً ولا تجده إلا مبتسما ضحوكاً حتى عندما يطفو الحزن من عينيه، عهدناه من تلك الفترة نسقاً واحداً لا يتغير، روح سمحاء تُحلّق ولا تلامس الثرى ، يخدم الناس بود عميق ويتبنى همومهم.. ويسعى في سبيل الخير آناء الليل وأطراف النهار.هكذا كانت حياته مثابراً مجداً، طيب القلب، صفيّ النفس، نظيف الفؤاد، لا يعرف الحقد ولا الحسد إليه
طريقاً، ظل يعاند الحياة وتعانده، يجابه الظروف وتجابهه، عندما ألم به المرض جال السقام بصبره
وقوة شكيمته، انتصر على مرضه مرات، كان مبتسماً والمرض يفتك به، ومفتر الثغر كثير الابتسام بضحكته
الصافية والموت يقترب منه، رمحه وسيفه ونصاله في مواجهة الموت هو ابتسام في ابتسام وضحكة تتخندق
في متراس ضحكة، حتى أعياه النزال فغادر بنفس راضية مرضية لعلها التي ترفرف عند جنان خالقها…. وهل نحن لا نملك له إلا الدعاء بالرحمة والغفران ورسم وجهه المبتسم علي جداريات الزمان المر العبوس.