حكاية في ليلة من ليالي قرية!! …
“أ”
كان الغروب بحمرة أفقه الملتاع، يحتضن الشمس التي لوَّحت بالوداع، وعند تلك الروابي المغطاة بغلالات شفيفة من الشحوب وشفقه، لمعت ابتسامة نجمة في أقصى الشمال، كأنها تضاحك نجمة أخرى ألقت عن وجهها نقابها ومضت تشق فضاءها بوجه طروب..
وتصاعدت أدخنة المساء من بين تلك العرائش والرواكيب الباهتة.. وتخالطت أصوات الرعاة العائدين بأبقارهم وأغنامهم مع كتل الليل وأذان المغرب من مسجد مشيد من الطين وسقفه من قناديل السعف، وظهر من بعيد رجل يسعى، متعجل في مشيته، بيده مسبحة من حبات اللالوب، وعلى رأسه طاقية من خيوط التيل الأبيض تشربت بصفرة بالية من تعرّق رأسه الدائم الذي يرشح رشحاً.
كان يأتي من المدينة البعيدة، مرتين في العام، يعرفه أهل القرية المرتمية عند سفح جبل منخفض حوله تلال من رمال وصخر، ويلف ساعده حول القرية الصغيرة الوادعة، مسيل ماء أهوج مفتول العضلات في الخريف، تسمع لصوت مياهه الهادرة شهيقاً وزفيراً… وغطت جانبي الخور الطائش نباتات مختلفة من الجميز والحراز والهجليج ونباتات شوكية أخرى وسعف وأشجار متفرقة من الدوم وشجرتي دليب تقاسمتهما الضفتان.
” ب”
عند السفوح الجنوبية الشرقية لجبل مرة، كانت القرية هانئة، لا يكدر صفو ليالها، إلا عواء الذئاب البعيد، وترنيمات خافتة وأغنيات تنطلق راعشة مرتجفة من حنجرة الرجل الذي يزور في العام مرتين .. ولا يجد سلوى في القرية أكثر من تلك اللحظات التي يقضيها مع أحد أعمامه من شيوخ القرية ما بين صلاتي المغرب والعشاء.
ذات مساء.. قال له عمه بصوت غامض ضبابي المقصد:
“هل لفظتك المدينة؟!”
شعر وكأن صوت عمه أشبه بفحيح خرافي عميق، ارتجفت أوصاله، وزادت دقات قلبه.. وظن أن عمه يعرف السر المحفور في صخرة فؤاده..
صمت برهة أطول من حبل السَّلَبة.. وحدّق في الفراغ الظلامي حيث تلاعبت أنامل النجوم بضفائر الليل المرخي سدوله.. ثم تنهد.. وقال لعمه المنتظر الإجابة بإذن لاقطة كمنقاش حديدي علاه الصدأ:
“المدينة لم تلفظني يا عمي.. لكنها ركلتني مثل الكرة وسيصدني حائط فأعود إليها”.
قال عمه: “هه”، وصمت ليبحث عن مشكاة أخرى يتسرب منها الحديث ..! وكان الرجل القادم من المدينة ينظر في المدى الفراغي بلا هدف، والقلق يملأ جوانحه رغم السكينة والسكون.
تمطّى في «البرش» المبسوط في ساحة المنزل بين ثلاث قطاطي، وترك قلبه ينزف بالشجن وعينه تذرف دمعة حرى وأذنه تلتقط همسات الذكريات وهن يقتربن منه كسحابات عابرات من الشرق نحو الغرب البعيد.
“ت”
كان بالفعل قد غرق في بركة من الذكريات!!
في منتصف السبعينيات من القرن الماضي، في ظهيرة لافحة، ألقى به لوري ماركة “بدفورد” محمل بالمانجو، وسط مدينة نيالا.. جوار المسجد العتيق، لم يجتهد كثيراً في العثور على مسكن أحد أقربائه يقيم مع “عزابة” في أحد الأحياء العريقة بالمدينة، وسرعان ما تلقفته حياتهم، ما بين خمر يشربها وأنيس مليح يقاسمه الليالي الضائعة.. لم يجدوا له عملاً سوى فرصة مع ترزي “ستاتي” في قلب المدينة، وهناك تعلم هذه المهنة وحذقها بسرعة.. واستطاع أن يجد تلك اللحظة التي يحدث فيها التناغم ما بين حركة رجليه على «البدال» ويده على عجلة اليد «الطنبور» في الجزء الأيمن من الماكينة، ويده تضع القماش تحت المشط والدواس لبدء الخياطة.. ويخرج الخيط من المكوك الذي في الخزنة مع حركة الرقاص وبكرة الخيط والترمسة التي عليها الخيط، كان يتمايل مع الإيقاع العجيب لماكينة الخياطة، تلاعبت أصابعه بالخيوط الملونة وحبات الترتر، وعرف أنواع القماش وتفصيلات الفساتين النسائية والموضة في تلك الفترة وذاك الأوان.. وقضى أوقاتاً طويلة يتفرج في الكتب الضخمة التي كانت تأتي من القاهرة وبيروت فيها أنواع التفصيلات النسائية المختلفة، ولم تمض شهيرات قلائل إلا وعرف كيف يأخذ المقاسات للسيدات «الظهر وعرض الصدرية والطول والأكمام والخصر»، يعلق على رقبته شريط المتر لأخذ المقاسات، ويضع قلماً في شعر رأسه.
كان ملهماً في التفصيل لفساتين الموضة التي ظهرت في السنوات الستين والسبعين من القرن الماضي «الكلوش، الماكس، القمربوبا، البرنسيسة، والهيلاهوب، وأنواع الإسكيرتات والقمصان النسائية والبلوزات والفساتين»، وعرف أنواع القماش الجيدة من “الساتان والتريفيرا والأسموكنج والكرمبلين والكربشين والدانتيلا”.
“ث”
كان مغرماً بتتبع الموضة وحديثها ومستجداتها ومستحدثاتها، دخل سينما نيالا وداوم عليها كثيراً ليتعرف ويسرق تفصيلات فساتين فاتن حمامة وهند رستم ونجلاء فتحي ومديحة كامل وسهير رمزي وأليزابيث تايلور وريتا هيوارث وصوفيا لورين …
في فترة قصيرة من الزمن صار له صيت وكوّن معجبات ومجموعة كبيرة من الزبونات من سيدات المدينة وجميلاتها وطالباتها، وصار كلما وجد في حفل غنائي أو رأى نساء في الطريق أو طالبات المدارس المتوسطة والثانوي عرف فساتينه التي قام بحياكتها وتفصيله الذي سارت به الركبان، وتبتسم له العروسات اللائي تفنن في تفصيل ثيابهن للعرس ورقصاتهن يوم الفرح الجميل، حسده الشباب وحقد عليه الرجال لمعرفته بالنساء وحفظه لأسرارهن وأحاديثهن وهن ثرثارات في أمكنة الخياطة والحناء..
كان أنيق العبارة والمظهر، لامع الأحذية، براق الأسنان، عميق النظرات، كثير الصمت، قليل الكلام، ترك على موضة شباب تلك الفترة أظافر أصبعين من يده اليسرى تنمو كما تشاء ظناً منه أنها خطوة تنم عن التحضر والمدنية، وشعر رأسه يطول على طريقة «فرقة البيلتز» الخنافس في بريطانيا في تلك الأيام.. وخالطه وهم كبير أنه صار من نجوم المدينة اللامعة.
“ج”
وزعم أهل المدينة.. أن محل الحياكة الذي يقيم في المنزل الملاصق له، صار مريباً، وتحدثت المجالس أن “جنية” تقيم فيه، طويلة مهوى القرط، لها ذؤابات وضفائر شعر تسافر في كل الدنيا كما غنى عبد الحليم حافظ لنزار قباني في قارئة الفنجان، أعينها واسعة ممتدة إلى ما يقارب أذنيها، لكن أسنانها سوداء متآكلة.. شفتان جائعتان.. وترتدي فستاناً طويلاً من الدانتيلا الأبيض.. تتجول عند منتصف الليل ما بين محل الخياطة والمنزل الفسيح الذي يسكن فيه صاحبنا الخياط.. وتحمل مبخراً تتعالى منه خيوط دخان أزرق لامع .. ورائحته تشبه حنوط الموتى!!
وزعم أهل المدينة أن هذا الرجل الصامت تزوج من هذه الجنية، أو صادقته في غفلة من الزمن والناس.. تجنبه البعض واستغرب فيه الأطفال الذين سمعوا رواية الجنية، وتهامس عنه رجال الحي في المسجد الصغير، وتناولت النساء سيرته في مجالسهن النهارية وفي جلسات القهوة، وفي داخليات البنات في مدارس المدينة تبارت الطالبات في نسج الحكايات والقصص والمرويات عنه، وأن هذه الجنية أعطته أموالاً طائلة واشترطت عليه ألا يتزوج غيرها وإلا شربت من دمه.. وأنه يقضي الليالي الطوال بعد منتصف الليل يخيط لها فساتين لامعة مثل النجوم يرصعها بحبات من الودع والكهرمان.. وبعضهن زعمن أن الملابس والفساتين التي يخيطها للجنية هي من أكفان الموتى تستخرجها من القبور، وأن من يرتديها يكون كالطيف لا يراه أحد ولا يحس به شخص أن مر مروراً أو دخل مكاناً أو جاس خلال الديار.
“ح”
لما تكاثفت المزاعم والحكايات داخل الحي وفي مجالس المدينة، وتحدث خطيب جمعة في أحد المساجد عن هذه الأوهام والأباطيل والبيت المسكون وزواج الإنسي من الجنية … داهم ذات ليلة مجموعة مجهولة من الرجال دكان الخياطة وأضرموا فيه النار وعلا دخان الحريق ورائحة القماش، وامتدت النيران إلى المنزل الملاصق.. وتحت ألسنة اللهب خرج الرجل مذعوراً وتجمع أهل الحي.. لم تكن هناك جنية ولا فساتين الدانتيلا البيضاء ولا تلك المصنوعة من أكفان الموتى .. وزعم بعض الكاذبين أنهم شاهدوها في وسط اللهب تطير في الفضاء تنادي الخياط المسكين.. وهي تحمل معها مصباحاً أوقد من زيت تنظيف مكنة الخياطة.. واختفت في الفضاء المظلم واحتواها الليل وتوشحت بأستاره.
من تلك الليلة خرج الرجل من المدينة مذعوراً ومطارداً يتلفت …
انتبه وهو على ذلك البرش وسؤال عمه اللزج “هل لفظتك المدينة؟!”
قال في نفسه ..”أنا مثل كرة التنس… سأعود”..
كانت عيناه مُثبّتتيْن في ليل القرية إلى فراغ بين نجمتين في السماء.. ربما تظهر الجنية هناك!!