ولكن على من تقرأ “مزاميرك” يا داؤود !
ـ ظللتُ عبر هذه المساحة ومنذ اليوم الأول من دعاة بناء تحالف كبير هدفه وغاياته تأمين المرحلة الانتقالية وتعزيز مسارها، وقلتُ إن هذا التحالف لا يجب أن يستثني أحداً، إلا من استثنى نفسه أو ثبت جرمه عبر القانون، وقلت إن الدعوة لبناء تحالف عريض لصالح الديمقراطية بين أهل المصلحة كما يقولون يجب أن تسبقها تسوية بين الأعداء التاريخيين في الساحة. وباعث ذلك أنهم لطالما امتطوا بسبب الغبن أو الظلم أو الإقصاء أحصنة الانقلابات رغبة في قلب الطاولة على خصمهم، ولنا في تاريخنا السياسي منذ عبود والنميري وحتى البشير عِبرة وعِظة!
ـ لقد تآمرت الأحزاب نفسها على الديمقراطية التي جاءت بها للسلطة، ولم يكن ذلك من فراغ أو رغبة فقط في الخيار الانقلابي، بل لأسباب تتصل بالصراع السياسي، وهو أن النظام الديمقراطي في عيونهم، فمثلاً انقلاب الفريق أول إبراهيم عبود في العام 1958 كان دافعه تقدير رئيس الوزراء آنذاك عبد الله خليل بقيام تحالف وشيك بين الوطني الاتحادي وحزب الشعب الديمقراطي يمهد الطريق لإقصاء حزب الأمة من الحكومة، فدعا الفريق أول إبراهيم عبود للانقلاب على النظام الديمقراطي الوليد، وأما انقلاب جعفر النميري في مايو 1969 فكانت نتيجة لغبن الشيوعيين من حل حزبهم وطردهم من البرلمان في العام 1965 بسبب من واقعة دار المعلمين الشهيرة ، وانقلاب الرائد هاشم العطا في 19 يوليو1971 كان بسبب الصراع اليساري في مايو نفسها، وأما انقلاب الإنقاذ في الثلاثين من يونيو فقد جاء بسبب مذكرة الجيش التي رفعها الفريق فتحي أحمد علي في العشرين من فبراير 1989 وما ترتب عليها من إقصاء للجبهة القومية الإسلامية… وفي تاريخنا الوطني العديد من الانقلابات الفاشلة والتي كان من ورائها مغامرون وأحزاب ومن أشهرها انقلاب حزب البعث العربي الشهير بانقلاب رمضان في العام 1990 .
ـ وليس بعاصم من تكرار خيبات تاريخنا السياسي الذي ندر أن ينجو من تحمل المسؤولية فيه حزب أو جماعة، وجب علينا نحن أهل السودان أن نحيل كل ذلك إلى وعي، لا سيما ونحن نخرج الآن لفضاء تجربة سياسية جديدة بعد انحياز المنظومة الأمنية للإنقاذ في الحادي عشر من أبريل لخيار الشارع .
ـ كان المرجو منذ ميقات هذا التحول الجديد أن نرى بلادنا على غير مسار الخطر القديم، ولكن تصر قوى الحرية والتغيير بسبب من إرث الماضي اللعين وبدافع الغبينة والرغبة في التشفي والانتقام أن تقودنا إلى ذات نهايات الفشل والخيبة وعلامات ذلك واضحة وجلية .
ـ لقد تم عزل التيار الإسلامي بكامله عن المشهد السياسي برغم أن معظمه شارك وتفاعل مع دعوات التغيير منذ يومه الأول ، ولم يقتصر العزل عليهم فقط، بل ها هي الجبهة الثورية وهي الشريك في قوى الحرية والتغيير تشكو كذلك من تجاوزها وتهميشها.. بالإضافة إلى تنامي روح الغبن الاجتماعي من أسر وعوائل المعتقلين رغم قرارات المحكمة الدستورية، ومن المفصولين من الخدمة المدنية بسياسة التمكين المضاد، ومن المتضررين من اليتامى والأرامل والمساكين والفقراء من الإيقاف الجائر للمنظمات الخيرية .
ـ وفي هذا الجو الملغوم والمسموم تشيع الكراهية والسباب واللعن في الوسائط الاجتماعية، تسندها دعاوى الإقصاء والإقصاء المضاد، مع اشتداد الأزمات الاجتماعية الخانقة بسبب المعاش وسوء تدابير السياسات الحكومية وضعفها .
ـ لن تستطيع قوى الحرية والتغيير أن تقود البلاد إلى نجاة بهذا الطريق الذي تسلكه الآن، فالمشاكل الموروثة من الإنقاذ والأنظمة التى سبقتها تستوجب رؤية أوسع وأعقل وأحكم.. وتتطلب مشاركة الجميع في حمل المسؤولية، فالسودان إن ضاع سيضيع بنا ومنا جميعاً، ولسنا بأفضل ممن ضاعت منهم بلادهم في منطقتنا العربية بسبب من ضيق الفهم وشح النفس وغياب الوعي .