رحلة بلا نتائج
إذا كانت زيارة السيد رئيس الوزراء د. عبد الله حمدوك الحالية إلى واشنطون، بغرض التفاهُم مع الإدارة الأمريكية لرفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب وتطبيع العلاقات والعودة بها كما كانت، فإنه يتعيّن على السيد حمدوك أن يسلك الطريق الصحيح من أجل رفع اسم البلاد من القائمة الأمريكية السوداء، وعليه أن يبني مناقشاته على ما تمّ من قبل من حوار عميق بين حكومة السودان في العهد السابق والإدارة الأمريكية في عهد الديمقراطيين سابقاً والجمهوريين حالياً، فقبل أن يبدأ من الصفر وتتطاوَل الحوارات ويضيع زمن غالٍ قد يمتد حتى نهاية الفترة الانتقالية، عليه أن يبدأ من حيث انتهى النظام السابق والحوار الذي كان جارياً، فجميع تلكم الجولات الحوارية وما توصلت إليه موجود في وزارة الخارجية وجهاز المخابرات العامة ولدى سفارتنا في واشنطون .
كتبنا من قبل أن المدخل الصحيح، والنقطة الحاسمة في الحوار الممتد منذ ٢٠١٤م، وصل إلى مسائل فعّالة للغاية، لو تمّ التقدم فيها خطوة للأمام لقُضِي الأمر وحُسِم الخلاف مع الولايات المتحدة، وتنتفي مبررات استمرار إبقاء السودان على لائحة الإرهاب .
اتّفق السودان والولايات المتحدة حتى قُبيل أسابيع قليلة من نهاية النظام السابق على جملة إجراءات عملية لطي ملف الإرهاب، وسبق أن كتبنا هنا عن الشوط الختامي من الحوارات المُطوّلة التي امتدت لسنوات، واتّفقت الخرطوم وواشنطون في المسألة الأبرز والمعروضة على محكمة أمريكية تتعلق بتفجير سفارتي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في ٧ أغسطس ١٩٩٨، وتفجير البارجة “كول” في باب المندب في ١٢ أكتوبر ٢٠٠٠م، وحكمت المحاكم الأمريكية بدفع تعويضات باهظة على حكومة السودان المُتّهمة برعاية المنظمات الإرهابية التي قامت بعمليات التفجير، ورغم نفي السودان القاطِع صلته بتلك التفجيرات، إلا أن القرائن والتقارير والأدلة التي قدّمها الطرف الأمريكي أدّت إلى الإدانة والحُكم بالتعويضات .
من خلال المفاوضات والحوار الطويل بين الطرفين تمّ اعتماد صيغة حل قضية “لوكربي” بين ليبيا والدول الغربية الثلاث الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا (تفجير طائرة بان أمريكان فوق بلدة لوكربي الأسكتلندية ١٩٨٨، وانفجار الطائرة الفرنسية فوق صحراء النيجر ١٩٨٧)، حيث جرت مفاوضات طويلة مماثلة ساهم فيها بالوساطة الرئيس الجنوب أفريقي الأسبق والمناضل الأفريقي الكبير نلسون مانديلا والعاهل السعودي السابق الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود الذي كان ولياً للعهد في ذلك الوقت، وتم الاتفاق على أن تقوم ليبيا بدفع تعويضات لأسر الضحايا وللشركتين وتعويض الجرحى والمصابين وحُدّدت فئات القتلى والمُصابين.
تم بعد اعتماد صيغة “لوكربي” الاتفاق على حجم التعويض وحدّدت واشنطون قيمة التعويض لمواطنيها من الأمريكيين، بينما كان التعويض أقل لغير الأمريكيين، وتبقّت نقاط ذات طبيعة إجرائية للاتفاق النهائي الذي كان بموجبه تتم عملية التنفيذ ويتعبّد الطريق إلى نفس الصيغة الليبية برفع العقوبات وإزاحة اسم السودان من القائمة الإرهابية وفتح المجال لعودة طبيعية للعلاقات .
يبدو أن حكومة السيد حمدوك تعامَلت بمبدأ عدم الاعتراف بكل ما صنعه النظام السابق من تفاهُمات، وسعت إلى خطوات بديلة، فللأسف الإدارة الأمريكية لا تعرف هذا النوع من التفريق بين الالتزامات الحكومية والعقل الرأسمالي المُبتَز في إدارة دونالد ترمب لن يقبل بأي تسوية في علاقة البلدين دون إنهاء عملية التعويض وإغلاق الملف، لسببين، الأول سياسي، ومقصود به مبدأ واضح تتعامَل به واشنطون مع القضية وموضوع الإرهاب وتحسين السلوك والإجبار على التكفير عن الجُرم الذي ارتُكِب، والثاني أن الموضوع له سياقات قانونية وتم فيه حكم قضائي لا يمكن التراجع عنه وشطبه دون استكمال كل استحقاقاته، فالرهان من حكومة السيد حمدوك بتجاوز الإدارة الأمريكية لكل ذلك بجرة قلم والبدء من الصفر، هو توهّم سياسي لا مكان له في هذه القضية وفي التعاملات الدولية، فمهما قدّم السيد حمدوك من تنازُلات وحمل معه قانون تفكيك النظام السابق وحل المؤتمر الوطني، ليس من السهل أن تتخلّى واشنطون عن قضيتها وتتسامح وتعفو وتغفر من أحل سواد عيون وفد السيد رئيس الوزراء الانتقالي ووزرائه ووزيراته وهم يقضون عطلة لمدة أسبوع في واشنطون بلا شُغلٍ أو مَشغَلة …!