ونسمع بكثير إعجاب للدكتور حمدوك رئيس الوزراء وهو يُحدِّثنا عن مشروع وطني جامع يعين على الخُرُوج ببلادنا من نفق أزمة مُستحكمة باتت مُهدّدة لوحدة السودان وتماسُكه وأمنه وسلامه الاجتماعي.. ويتبدّد هذا الإعجاب ونحن نرى مُؤخّراً خطوات مجلس وزراء حمدوك تسير عكس هذا الاتجاه تماماً، ولولا رئاسة حمدوك لجلسات مجلس الوزراء لظننا أن هناك رئيس وزراء آخر يُدير البلاد !!
يدرك الجميع أنّ السودان منذ انفصال الجنوب يعيش وضعاً استثنائياً، بفقدانه لموارد البترول والتي كانت تُشكِّل جل مُوازنته المالية، وأنّ البشير وحُكومته وقفا عَاجزيْن عَن رَتق هذا العجز عن طريق النُّهوض بالإنتاج، فَكَان خيارهم عَون الخليج، والذي هو على أهميته يُشكِّل بندولاً لمُعالجة العرض لا المرض.
ومن المعلوم أنّ روشتة الرئيس السابق ما زالت سارية برغم مُغادرته للساحة السياسية إلى كوبر مُعتقلاً، فبلادنا ما زالت تتلقّى العون السعودي والإماراتي وبدونه لا أعلم كيف يُمكن أن يتدبّر السودانيون حَالهم في أمر الخُبز والوقود والدواء!
لا شك أنّ هذا الوضع الاستثنائي صعبٌ استمراره حتى إن رغبنا فيه، فإلى متى يُمكن أن يَستمر الأصدقاء في دعمنا في ظل أوضاعهم وتعقيدات المنطقة؟! والسليم أن نبدأ في تعاطي الدواء المُر وأن نُواجه أنفسنا بالحقائق.
لقد طرح الاقتصاديون في بلادنا حلولهم على البشير قبلاً، ثم على حمدوك الآن، وبقليل مُراجعة لمؤتمرات د. معتز موسى رئيس الوزراء الأسبق وتصريحات وزير المالية الآن ستجد أن التحليل والتشخيص والدواء واحد، ولكن الرهانات مُختلفة!
رهان الإنقاذ كان على الداعم الخليجي لإنجاز التّحوُّل، ورهان حمدوك على الغرب وأمريكا.. لم يكن لحكومة البشير أن تنتظر عوناً غربياً أمريكياً وهي المُحاصرة، ولكن حمدوك ظنّ وبعض الظن إثم أنّ أوروبا وأمريكا ومُؤسّسات التمويل الدولية يُمكن أن تشتري التّحوُّل السياسي برفع العقوبات، ثم بدعمٍ سريعٍ، وهذا ما لم يحدث ولا أظنه سيحدث قريباً.
مُجدّداً يعود حمدوك للخليج لطلب العون في مُوازنة العام 2020م، وبحسب تصريحات وزير المالية فإنّ عون الأصدقاء هو المُرتجى لسد العجز.. ومَن غير السعودية والإمارات يمكن مَن الأصدقاء أن يُعين على ذلك؟! ومع هذا العون سيبدأ حمدوك في تنفيذ سِياسة رفع الدعم تدريجياً، والمبتدأ سيكون بالوقود، وهذا يعني (تقسيط العلاج)!
لقد خَافَ البشير من فاتورة رفع الدعم سياسياً، فقد كان السخط عالياً مع طول البقاء في الحكم، وضعف العون الخليجي بعد الصراع الإماراتي السعودي القطري وتمنع السودان من الاصطفاف مع محور ضد محور، وأقول إنّ استمرار حكمه بعد شهر مايو كان مستحيلاً بحكم المعادلة الاقتصادية قبل السياسية.
تدرك قوى الحرية والتغيير أنّ روشتة علاج الاقتصاد السوداني تتطلّب منها سنداً سياسياً لحكومة حمدوك، لا سيما وأنها رفضت ذات الحلول من حكومة البشير يوم أن كانت تجلس في كرسي المُعارضة، واليوم بَاتَ عليها أن تقبل وتساند ما كانت ترفضه بالأمس.. فهل تفعل؟!
لن يستطيع حمدوك أن يمرر روشتته الاقتصادية دون سند سياسي واسع، ومن هنا وجب عليه أن يتخلّص من حمولة قحت السياسية، المشغولة، بسياسييها ووزرائها، بالماضي أكثر من انشغالها بالحاضر والمُستقبل، ثم استبدالها بمشروع وطني جامع.. إن لم يفعل فسوف يُواجه ما واجهته حكومة البشير.