القناعةُ التي ترسَّخت لدى غالب السودانيين، أن الحكومة الانتقالية وزُمرتها وجوقتها السياسية، باتت عاجِزة عن مُعالجة القضايا الحقيقية بالبلاد، وهربت للأمام عندما تركت ما يهم الناس، إلى ما يزيد من التوتر السياسي، ويُعبّد الطريق لما هو أخشن وأعنف، وليس السببُ قِصَر النظر وحده، لكنها النفوس المملوءة بالغِل، وهي تُعاني من مُضاعفات الخيبة والفشل في إدارة العمل التنفيذي، فلو رتّبت حكومة السيد حمدوك أولوياتها من البداية، وجعلتها مُصوّبة في الاتجاه الصحيح، لإبدال المواطنين واقعاً أفضل من حياتهم الضنكة الحالية، وبحثت عن حلول واقعية وعملية مقبولة للإصلاح الاقتصادي، وَسَعَت إلى جمع الكلمة ولملمة الصف الوطني لوفَّرت جهداً تستفيد منه في إنجاز شيءٍ تستفيد منه وتَجنِي ثمارَه .
فمع اشتداد أوار الحماسة الطائشة، ورقصة الهِياج الثوري المكذوبة، وجدت الحكومة تناقض كل ما قاله رئيسها في مفتتح أيامه، تحوّل الجهاز التنفيذي إلى أداة بطش وتنكيل بالمنظمات الطوعية التي ظلّت تُقدّم خدماتها للمواطنين، وإلى محاكم تفتيش جديدة تُريد محاسبة مواطنيها على مواقفهم واختياراتهم السياسية وقناعاتهم الفِكرية، ولا يوجد أبأس من التفكِير الصبياني المُرتَعِد والمُرتَجِف والمُرتَعِش الذي صيغ به ما يسمى بقانون تفكيك النظام السابق، فهو أغبى قانون على وجه البسيطة، ويضع سابقة في تاريخ السودان سيكون عليهم وزرها ووزر من يعمل بها لاحقاً، فالأخطاء والتجاوُزات والجرائم يتم التعامل معها بالقوانين الموجودة أصلاً، وهي لا تتجاوز في أقصى درجات ما هو موجود في قوانين وعقوبات، وقد سعت دول في المنطقة لسن مثل هذا النوع من القوانين سيّئة السمعة مثل تونس ومصر بعد ثورتيهما، لكنها سرعان ما تراجعت عنها، لأنها تتناقَض والمنطق السليم، وأسوأ ما كان في العراق هو ما فعله المحتل الأمريكي مع عملائه العراقيين بعد صدام حسين في وضع وتطبيق قانون اجتثاث البعث الموجود منذ 2003 وحتى اليوم، فماذا كانت النتيجة، وأين الذين ساعدوا المحتل الباغي، وأين العراق نفسه وأمنه وأمانه..؟ لقد فقد العراق بسبب هذا القانون خيرة الكفاءات والعقول العلمية والعسكرية بسبب الاتهامات الهلامية والجزافية الفضفاضة التي أتاحها ذلك القانون، وما حدث من شرخ في المجتمع العراقي لن يندمل قريباً، فستة عشر عاماً مرّت علي القانون الذي لم يُلغَ بعد، حوَّل هذا البلد العربي العظيم إلى أشلاء ودماء وتفجيرات ونار لا يخمد أوارها.
فلتفعل الحكومة ما تُريد ولتُجهّز تشريعاتها وقوانينها، لكنها ستحصد الحصرم في نهاية الأمر، وسينقلب سحرُها على سَحَرَتِها، فالتقلّبات السياسية وحالة اللااستقرار التي بدأت ملامحها في الظهور أكثر من أي وقت مضي، ستُحيل البلاد إلى حلبة انتقام مُتبادَل وساحة مواجهات لا تنتهي بلا منتصر أو مهزوم، إذا كانت الحكومة ستتحمل هذه النتائج الكارثية وهي بلا رُشد سياسي الآن، فعليها أن تمضي في طريقها كما تشاء، فإعداد مشروعات القوانين سهل، وحالة التشنُّجات الراهنة ليس من ورائها طائل، ولا تُبرِّر الوقوع في المُنزَلَق اللّزِج، فنحن جميعاً سنجلس على تَلٍّ من رماد..
لا تستطيع أي قوة في الدنيا أن تحارِب وتجتث فكراً سياسياً مهما كانت براعتها في الكيد والمكر، ولا تستطيع أي حكومة مهما سنَّت من قوانين وابتدَعَت أدوات جديدة للتآمر واعتساف القانون وتسخير السلطة، أن تُهيل الترابَ على قناعات الأفراد أو الجماعات، فالأفكار تُحارَب بالأفكار، والسياسة مكان وطريقة مواجهتها هو المُنازَلة بأدوات السياسة على مضمار التنافُس السياسي، أما إذا كانت الفكرة كلها تتلخّص في سن قانون يقطُر حِقداً وبُغضاً ويفتقر لأقل قِيَم ومقتضى المقصد القانوني ويتضاءل أمام روح العدل وسعة العقل السياسي السوي، فإنها فكرة ميتة ستدوسها الأقدام وتُولَد ميتة وتتعفّن كجيفة يعافها حتى بُغاث الطير…
نصيحتُنا للحكومة أن تبتعد من هذا الغلو المُهلِك لها قبل غيرها، ولتبحث لها عن مخارج من أزمة الاقتصاد وبؤس العيش وظاهرة الانقسام الأفقي والرأي في المجتمع، ولتجتهد لتحقيق السلام والاتفاق مع الحركات المسلحة، وهذا أفضل لها بكثير من اللهث خلف سراب قانون سياسي بالدرجة الأولى، وهناك فرق كبير بين أن تُلعَب السياسة بقواعدها وبين أن تُسيَّس القوانين ليُلعَب بها ويتم استخدامها وتُوظَّف أسوأ توظيف..