(المجد والخلود لشهداء الثورة وعاجل الشفاء للـ….)..
بدا هذا مكررًا ومألوفاً منذ انطلاق ثورة ديسمبر وتواصَل حتى اليوم… وكأنما هي (مقدمة الحاجة) التي يدرسها السلفيون في مدرسة الكادر.. و(لزمة) واجبة في كل أداء لدار (فلاح).. برأيي أنها تمثل إبداء لمشاعر العرفان بالجميل، فهل تكفي؟! وإلى متى ستلازم؟!..
لكل أمة وهي تخطو في مراحلها وتتجاوز دورات حياتها (منحنيات) بالغة العسر والخسارة.. ومهما كانت الكلفة باهظة ومنهكة لاجتياز تلك المنحنيات والصروف، فإن ذات الشعوب ولمواصلة مسيرتها تتكئ على رغبتها القوية في الحياة، تلك الرغبة الأمضى والأقوى من كل الرغائب… حتى في محاولة تزيين الموت فإن الصيغة الفضلى هي:
(اطلب الموت تُوهَب لك الحياة)..
ولم تزل ذاكرة الأمم تُلهب وتُلهم الوجدان جيلاً بعد جيل علي صعيد (أسطرة) أولئك الأبطال الذين مضوا شهداء الفكرة والانتماء.. فيمجدونهم ويوقرونهم.. ليس من أجل تكرار مشاهد موتهم الحاضرة، ولكن من أجل مواصلة كفاحهم ونضالهم وجهادهم في إنتاج حياة أفضل بعيداً عن مخاطر ابتلاع الحاضر وتأجيج المستقبل..
تلك (الذاكرة الوطنية الخالصة) تمنح أولئك الأشخاص احترامهم وتقديرهم الذي يستحقونه دون ابتعاث تلك الذكريات الكريهة الموقظة للألم والمهيجة للجراح .. ولو فعلوا لسقطوا في براثن (الذاكرة المغلقة) ذات السراديب اللانهائية الظلام والمحتكرة لمظلوميتهم السرمدية التي لا تقبل الجدل ولا تسمح بالدحض ولا المداواة… وكل الهم حينها أن تبقى تلك الفجيعة طازجة كما والصدمة الأولى!!..
في الذاكرة المغلقة تنطلق الأساطير على شاكلة أخرى من (الاحتباس) الذي لا يزول.. لتتوج حالة قمعها التاريخي إلى نقطة (حج مركزية) تبقى ولا تزول.. لتستفيد تلك الذاكرة وتعتاش دوماً من التغذية الراجعة التي لا تفنى ولا تُستخلَص من عدم!!..
-كربلاء والمحرقة (الهولوكوست) نموذجاً.
وشعبنا العظيم قُدّر له أن يجتاز مثل تلك المنحنيات والخطوب في مناسبات عدة على نحو بديع بفضل ممارسة (النسيان الحميد) الذي قال عنه أحد التوانسة (لا يقل نبلاً عن التذكر).. لتصنع الذاكرة السودانية الجمعية لنا حياة أفضل على أنقاض جروحها في (كتلة المتمة) و(كرري) و(معسكر جودة) و(الجزيرة أبا) و(قصر الضيافة)، فلا تلتهم الحادثات في ماضينا المخيف ذرارينا وذرياتنا..
لكن شعوباً أخرى لم تنجُ من كمين (الثأر الوطني) المتواصل.. فظلت بغداد نسيجاً متواصلاً من الدم المُسترخَص والفجيعة الدائمة والقمع الوحشي بلا هوادة أو استثناء.. لم يذُق العراق راحة من تلك الإراقة ولا أمل!!
بين يدي لجنة للتحقيق في فض الاعتصام نود أن نرسل الانتباه إلى تهيئة الناس.. والبحث معهم عن ذلك الصحيح الذي يجسر المسافات ويداوي الجروح..
لسنا بصدد إخضاع الضحايا للمدارَسة والتحليل والأوفق دائماً أن نقدم بين يدي نجوانا التقدير والتجلة وأن نشرع في ذات المجتهد إلى إنجاز ترتيبات ناجعة للمعايرة ما بين الماضي والحاضر بالتفاتة إلى المستقبل والترجيح ما بين النسيان والتذكر وصولاً إلى ذاكرة وطنية جامعة وحسن الاختيار ما بين المحاسبة والغفران إنتاجاً للعدالة الانتقالية..
بحيث نتجهز للتسويات المستحقة.. وإلا فإننا لا نفتأ نحوم في أرخبيل الألم -إن كُتبت لنا الحوامة- أو إلى (أبد الآبدين)..
– نواصل-