اختار الفريق البرهان اللحظة المناسبة وأطلق حديثاً سياسياً محسوباً بدقة ولأول مرة ينزع البزة العسكرية، وهي خطوة لها ما بعدها وعندما سأله المحاور عن إمكانية ترشّحه أكد أن الوثيقة الدستورية تمنع أعضاء مجلس السيادة ومجلس الوزراء من خوض الانتخابات القادمة.
ولكن السؤال أي انتخابات هل الوثيقة الدستورية نصت على حرمانهم من المشاركة في الانتخابات البرلمانية أم الرئاسية؟
البرهان أدرك جيداً أن الوثيقة الدستورية التي تم الاحتفاء بها من قوى الحرية والتغيير لم تجد الاحترام الذي تستحقه من الذين وضعوها، وفي أول اختبار لمدى جدية التزام قوى الحرية والتغيير بها، تكشفت النوايا وداس البعض على الوثيقة بأقدامهم وهي وثيقة على كثرة عيوبها تم خرقها الآن، وقد تجاوز موقعوها الآجال المنصوص عليها لتشكيل المجلس التشريعي، وهي مدة ثلاثة أشهر من تاريخ التوقيع على الوثيقة، والأن تم مد تشكيل المجلس التشريعي حتى نهاية العام في انتظار قوى الكفاح المسلح، فهل خلال المدة الزمنية القادمة حتى تشكيل المجلس التشريعي يملك المجلس السيادي ومجلس الوزراء حق التشريع؟
البرهان قرأ الساحة جيداً ونظر وقدّر في الوجوه التي ستدفع بها الأحزاب لمنصب رئيس الجمهورية إذا تم الاتفاق على النظام الرئاسي في المؤتمر الدستوري المنتظر وفرصه الشخصية في خوض الانتخابات ومن هم المنافسون له، وهو شخصية عسكرية مسنودة من أكبر مؤسسة في البلاد تملك مفاتيح الحل، ومنافسوه من الأحزاب اليسارية لا قيمة لهم في سوق السياسة، ولا يملكون رصيداً في بنك الجماهير، وأي انتخابات حرة ونزيهة لن يتعدى نصيب الحزب الشيوعي عشر دوائر في أحسن التقدير، وربما ينال حزب البعث العربي الاشتراكي دائرة واحدة والجمهوريون مصيرهم الانضمام للقوى الصفرية مثلهم مثل الناصريين والبعث جناح سوريا
والإمام الصادق المهدي لن يقوى بعد الآن على خوض الانتخابات والمعارك، وحزب الأمة خسر رصيده الديني بوقوفه مع التيار العلماني ومناصرته للجمهوريين وتماهيه خوفاً ورهبة وطمعاً مع الشيوعي ويصبح المنافسون للبرهان هم الإسلاميون وهؤلاء لن يسمح لهم بالمشاركة في الانتخابات بموجب قانون الإقصاء الذي يتم تفصيله الآن في اتحاد المهنيين.
ولم يتبق في الساحة إلا الحزب الاتحادي الديمقراطي الذي غيبته الظروف الراهنة وتسعى مخابرات ومطابخ السياسة في مصر إعادة الروح للحزب والدفع به في الساحة، ولكن الاتحادي الديمقراطي سيظل مسجوناً في عباءة الميرغني الكبير وأولاده وأحفاده، والبرهان أكبر مستفيد من حالة التوهان الليلي لأحزاب السودان.
مخطئ من يقرأ الساحة السياسية من غير تأمل عميق ونظرة حصيفة لمآلات الصراع بين الإسلاميين واليسار، ومن المستفيد منها؟ إذا ما تم حل المؤتمر الوطني بالقانون، فالرصيد الجماهيري لهذا التيار الإسلامي لن تأكله دودة الأرض أو يذهب مع الريح، والبرهان نفسه كان رئيساً للمؤتمر الوطني بمحلية جبل مرة، حينما كان معتمداً ودستورياً، صحيح أن تعيين الضباط في مناصب الولاة والوزراء في الولايات كان خاضعاً لمزاج البشير، وليس قرار مؤسسات الحزب، فهل كان الفريق أبوشنب أخاً مسلماً؟ وهل الفريق أحمد خميس بخيت “مؤتمر وطني”، وحتى بعض الوزراء في الحكومة المركزية كانوا أقرب للبشير من الحزب والحركة الإسلامية، كل ذلك يعلمه البرهان وهو يخطط الآن لرسم مستقبله السياسي في الحكم بطريقته الخاصة وبحسابات بعيدة عن حسابات الآخرين، ولكن مشكلة القوى السياسية يمينها ويسارها لا يتعلمون من دروس الماضي القريب والبعيد عندما جاء جعفر نميري إلى الحكم محمولاً على أكتاف اليسار أطلقوا عليه فرية “طيش حنتوب” ووصفوه بالغباء فحكمهم ستة عشر عاماً، وصفق له أوائل خور طقت وبخت الرضا، وخضع له الأطباء والمهندسون، وجاء عمر البشير إلى السلطة بدبابات صرف لها الوقود الشيخ الترابي، فتوهّم المعارضون بأن النظام سيسقط في ثلاثة أشهر، وأصبح السقوط في عام وعامين وعشر سنوات، اعتبر بعضهم البشير مجرد أداة طيعة في يد الترابي فوضع الترابي نفسه في السجن، ومد حبال الود مع نقد والميرغني، وكان الإمام الصادق المهدي يزوره في هجعة الليل وسيارته يقودها ابنه عبد الرحمن، ولعب البشير بكل البيض ومكث ثلاثين عاماً من الحكم.
الآن يعتقد البعض أن البرهان سيسقط في عام وسيتنازل عن الرئاسة لأحد المدنيين بعد عام ونصف ويبقى عضواً عادياً حتى إجراء الانتخابات القادمة فهل هذا (كلام) واقعي؟
أم هي أضغاث أحلام ؟ وهل ما ظل يتردد عن الثورة التصحيحية القادمة هي محض تخيلات فقط ؟ أم هناك ما يرجح أن تحدث تغييرات كبيرة في الأيام القادمة يخرج على إثرها الحزب الشيوعي والبعث من الحكم وتمضي الفترة الانتقالية بالمكون العسكري وحزب الأمة والمؤتمر السوداني ويصبح الإسلاميون واليساريون جميعاً خارج الخدمة، وبعيداً عن القصر. كل ذلك قد يحدث، ويصبح البرهان هو مهندس النصف الثاني من الفترة الانتقالية، ويمثل دور مصطفى سعيد في رواية “موسم الهجرة للشمال” وهو بطل الرواية الحقيقي، وقائد ثورة ١٩ ديسمبر من دون معرفة الأحزاب التي قفزت للواجهة بينما الفاعل والمخرج الحقيقي كان يطوف مع البشير في رحلته ويتأمل في العيش الملا القندول.
ونواصل