وزراءٌ ضد الشعب

 قرارُ حلّ عددٍ كبيرٍ من المنظمات الإنسانية والطوعية بدعوى تبعية بعضها للمؤتمر الوطني، قرار مُخجل ومَعيب، وليس مسنوداً بأي مُسوّغ قانوني أو مُبرّر منطقي، ومخالف للقانون، وكل حقوق الإنسان ومفاهيم العمل الطوعي الإنساني، ولم يُبنَ على حيثيات ووقائع تُبرّر صدوره، وهو تعبير واضح عن الاستهداف وروح العداء الطائش المبني على حقد دفين وتجريم مُسبّق وترصّد سياسي.

 وبهذا القرار تكون مفوضية العون الإنساني ووزارة العمل ووزيرتها، قد ارتكبت جريمة شنيعة في حق هذه المنظمات، ووجّهت طعنة نجلاء إلى قلوب مئات الألوف من الفقراء والمعوزين والمُستفيدين من خدمات هذه المنظمات التي يخلو سجلّها من المُخالفات وتثقل موازينها بجلائل الأعمال التي تقدمها في مناطق السودان المختلفة .

ماذا ستقول الوزيرة ومفوضة العون الإنساني لمئات الألوف من المواطنين الذين يتلقّون الخدمات العلاجية والإغاثية والتعليمية والإيوائية التي كانت تُقدّمها هذه المنظمات الإنسانية دون مَنٍّ أو أذى، فآلاف الأطفال الأيتام كانت تكفلهم بعض هذه المنظمات في مناطق نائية وفي قرى بعيدة، وتُوجَد مختلف الخدمات الصحية والرعاية الطبية ظلت تقوم بها منظمات سنين عدداً دون منٍّ أو أذى، وفي صمت ودون أن تتوجّه إليها أضواء الإعلام، وهناك عشرات بل مئات الآبار حفرتها هذه المنظمات المحلولة ومراكز إيوائية تمّ بناؤها، فضلاً عن  المستشفيات والمراكز الصحية وتسيير القوافل الطبية التي تجوب طول البلاد وعرضها، تُقدّم خدماتها من غير مُقابل ويتطوّع فيها عشرات الأطباء والكوادِر الطبية لخدمة المواطنين في قُراهم وفرقانهم وبواديهم، وتوجَد مؤسسات تعليمية شيّدتها المنظمات التي تواجه قرار حلها ارتقت فيها بالتعليم، وقدّمت خدماته للفقراء والمعوزين واليتامى. وساعدت الكثير من هذه الأوعية الإنسانية في كل مجالات الدعم والسند من تسليم مواطنين وسائل كسب العيش، ودعم الزي المدرسي، والإفطارات الجماعية في رمضان، وسلال شهر الصوم، وفرحة العيد ومحاربة الفقر، والمساهمة في حل النزاعات الأهلية مثل صراع الرزيقات والمعاليا الذي لعب فيه مركز الدراسات الاجتماعية دوراً بارزاً وعَقَد دورات تدريبية للإدارات الأهلية من الطرفين وجُمِعوا في مكان واحد حتى تمَّ الصلح .

 والغريب أن الوزارة ووزيرتها ومفوضية العون الإنساني خَبَطتْ خبْط عشواء، ولم تطلع الوزيرة على صفحة واحدة من إنجازات هذه المنظمات، ولم تُكلّف الوزيرةُ نفسَها بالاطلاع على التقارير، لو فعلتْ ذلك لَعلِمت أنه في كل مناطق النزاعات والتوترات والقصور الخدمي والتخلّف التنموي تنشط هذه المنظمات وتقدم للمواطنين ما تعجز عنه الحكومات والسلطات المحلية، وأن الجهات المانحة خاصة من أوروبا وأمريكا والدول العربية ظلّت تُقدّم لعدد من المنظمات دعماً مستمراً يبلغ عشرات الملايين من الدولارات سنوياً، وتتابع الجهات المانحة أوجُه ومشاريع صرف هذه الأموال. ففي ولاية كسلا مثلاً تُوجَد منظمة من المنظمات التي تم حلُّها تقدم دعماً تعليمياً وصحياً لسبع محليات من محليات الولاية للريف المنسي. وقد حصلت هذه المنظمة على دعم العام الفائت فاق الخمسة ملايين دولار لتغطية احتياجات مشروعاتها الخدمية، ويوجد تعاون وثيق بين المانحين الأوروبيين وهذه المنظمة مما جعلها محل ثقة ودعم مستمر لقناعة المانحين بجدّيتها وأهمية ما تقوم به .

ما قامت به السلطات الحكومية بتوجيه من ناشطين امتلأوا بالكراهية والفشل والتعصّب السياسي،  هو وصمة عارٍ في جبين العمل الإنساني بالبلاد، ولطخة في جبين صفحات العمل الإنساني الذي لا يقبل التوظيف السياسي، ولا الأحقاد الحزبية، ولطمة على وجوه كل الأطفال والعَجَزة والمرضى من رواد مراكز غسيل الكلى التي تمتلكها وتُديرها منظمات تمّ حظرُها بقرار الوزيرة المشؤوم، وإساءة بالغة للخلاوى التي تُدعَم من العمل الطوعي والخيري وتوفّر فيها أنواع الغذاء والكساء ومُستلزمات أخرى، فغداً، وبعد هذا القرار، ستتوقّف وتُغلَق مئات المدارس ومئات المراكز الصحية والشفخانات والصيدليات الشعبية والقوافل الطبية المُتنقّلة ومخيمات علاج العيون والسمع، وسيلجاً آلاف المرضى بالفشل الكلوي وخطر العمى والكلازار للحكومة ولا يجدون عندها شيئاً، وسيتشرّد ألوف التلاميذ بإغلاق مدارس هذه المنظمات، ومئات الألوف من الجوعى ستُسَد الأبوابُ في وجوههم، لأن الجهات التي كانت تُوفّر لهم القدرَ اليسيرَ من المأكل والمشرب قد أُغلِقَت بالضبة والمفتاح، والمفتاح عند الوزيرة التي كان من أهم واجباتها أن تكون لها يد حانية وقلب إنسان شفيف ..

إذا كانت الحكومة قادِرة على توفير ما تقوم به هذه المنظمات التي قرّرت حلها، ولها قدرة على استقطاب الدعم وتوفير الخدمة، وسد الثغرات التي يقوم بها المجتمع الأهلي والعمل الطوعي، فلا ضير في ذلك، لكنها حكومة “قحت” لا ترحَم ولا تُريد رحمةَ الله أن تنزل على عباده،  فدعوات المظلومين من مُتَلقِّي خدمة المنظمات وأنين آلاف اليتامى الذين كانت تكفُلهم جهات خيرية إنسانية، كلها اليوم أمام الكريم الرحيم تشتكي إليه هذا الجور والعسف وضلال التسلّط الأعمى وجهل المُطفِّفين في ميزان العدالة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى