حديث البرهان (1)
فتح الحديث الذي بثته قناة “الجزيرة” يوم الخميس الجدل واسعاً في الرأي العام ووسائل التواصل الاجتماعي ما بين مؤيدين ومعارضين منصفين ومتحيزين.. خاطَب البرهان جهات عديدة وبعث برسائل مباشرة وخفية لأصدقائه وشركائه وأعدائه المتربصين به والطامعين في سلطة يملك لوحده توجيه مرسى سفينتها نحوهم واختيار قناة “الجزيرة” نفسه كمنبر يخاطب منه الرأي العام المحلي والعالمي محل نظر عند البعض ودهشة عند آخرين..
الفريق عبد الفتاح شخصية عسكرية تملك قدراً من الدهاء والحنكة.. وهو رجل دولة مختلف عن كثير من الساسة عسكريين ومدنيين.. صامت ومفصح في آن واحد.. يملك جهاز حاسوب سياسياً دقيقاً جداً في توجيه بوصلة الأحداث.. لا يتحدث إلا بقدر، أحاط الرجل نفسه بضباط تختلف مشاربهم الفكرية والسياسية، ولكنهم على اتفاق وولاء شخصي للرجل الذي يجلس على هرم السلطة ويمسك بخيوط لا يعلمها الكثيرون..
عندما اشتد الحصار على الرئيس السابق عمر البشير وتعالت الأصوات بالقرب من مرقده مطالبين برحيله من الحكم ووجد البشير نفسه محاصراً في الخرطوم.. اختار طريقين للخلاص من أزمته.. اتجه نحو الجيش الذي أنهكته حروب البشير في دارفور والمنطقتين وفقد رجاله المخلصين الناصحين الأشداء ولم يجد في الجيش الخلاص من محنته.. والطريق الثاني الذي سلكه البشير يمر عبر الولايات وهو ذات الطريق الذي سلكه الترابي حينما اشتد الخلاف داخل البيت وتشظى التنظيم ما بين موالاة “الفكرة” وموالاة “السلطة”.. وحاصر الترابي البشير من دارفور وكسلا وسنار وترك له منفذ نهر النيل لوحده..
بعد كل تلك السنوات من الحكم المطلق لجأ البشير إلى الولايات وكانت الزيارات الشهيرة لود مدني وكسلا والأبيض والنيل الأبيض، وفي كل تلك الزيارات حدث شيء مريب جداً.. وقد دفعت القيادة العامة بالفريق عبد الفتاح البرهان واللواء ياسر العطا واللواء أسامة العوض لمرافقة الرئيس السابق هل لحمايته؟؟ أم لمراقبته؟؟ كان البرهان يقف بعيداً عن منصة الخطابة في الكريدة غرب النيل الأبيض وفي كادوقلي وكسلا والأبيض يراقب صامتاً آخر أيام البشير.. يتأمل في الوجوه ويقرأ تفاصيل مشهد الهتاف البائس “تقعد بس”!! بعد اللقاءات الجماهيرية التي يخاطبها البشير “يطير”، الفريق البرهان بمروحيته ومعه الضباط الاثنان ياسر العطا وأسامة العوض للخرطوم وكلاهما كان لهم دور خفي في إزاحة البشير من السلطة ،وهم اليوم من يقودون الفترة الانتقالية بالقرب من الفريق البرهان كقادة مخلصين جداً لقائدهم..!!
يقرأ الفريق عبد الفتاح البرهان في أوراق حلفائه العرب ويبصر من بعيد أن هناك مصالحة “خليجية خليجية” تطبخ على نار هادئة وأيام المواجهة غربت شمسها.. فبعث البرهان برسالته بالإطالة من قناة الجزيرة القطرية للرياض وأبوظبي والقاهرة ولم يسلم أمره لأحد من المعسكرين..!!
يقف البرهان رافضاً لمبدأ تسليم الرئيس السابق عمر البشير للمحكمة الجنائية، وهو موقف مبدئي وأخلاقي من جهة.. ولكنه يحفظ للرجل شعرة واهنة مع الذين انقلب عليهم من الإسلاميين.. ويفاجئ الجميع بتعيين نائب لمدير جهاز الأمن أحمد إبراهيم مفضل الوالي الأسبق وأحد “أذكى” ضباط جهاز الأمن في السنوات العشر الأخيرة وشريك البرهان، ونعني بذلك قوى الحرية والتغيير في حالة دهشة مما يحدث وصدمة من حديث الرجل المباشر وقوى الحرية التزمت “للخارج” بتسليم البشير للجنائية بعد أن تتسلم السلطة كاملة.. ولكنها تتفاجأ بعد ثلاثة أشهر بأن السلطة في يد وتحت إمرة الفريق البرهان قائد الجيش الذي يتأمل المشهد ويترك للقضاء سلطة حل المؤتمر الوطني الذي تطالب به قوى الحرية والتغيير كشرط وجوب لنجاح الفترة الانتقالية.. والبرهان يترك الأبواب مواربة وكل الخيارات أمامه ممكنة..
نواصل