كثيرٌ من التحليلات حول ما يدور في الشرق تُحاول الإشارة إلى مؤامرة لفصل الولايات الثلاث أو بعضها عن السودان، وهو حديث فيه نذر الحقيقة، وكثير من الإسراف الجهول بطبيعة إنسان الشرق وقوة انتمائه لوطنه وترابه، ولم تزل حقائق الواقع ترفُض وتُعانِد مثل هذا التفكير المُتعجّل في قراءة ما يحدث من صراعات تظل هي نزاعات قبلية لا أكثر ولا أقل، وإن بدت في الخفاء أصابع من الخارج تُحاول العبث بمكوّنات هذا الجزء من البلد.
أحاديث هنا وهناك تتعالى أحياناً وتنخفِض أحايين، تتحدّث عن مُخطّطات تتم صناعتها في إطار تقسيم السودان، ولا خلاف أن جهات خارجية تعمل على تنفيذ إستراتيجيتها لجعل السودان أرخبيلاً من دولٍ صغيرة مُمزّقة مَهِيضَة الأجنحة، لكن ذلك لا يعني أن أية صراعات قِبلية بين المُكوّنات السّكانية تعني أن الشرق سينفصل وتذهب ريحُه..
في دارفور ومناطق كردفان دارت رحى حروب قِبلية مُمِيتة راح ضحيّتُها الألوف، ففي يوم واحد مثلاً تُخلِّف الصراعات مئات القتلى، ونشأت حركات مسلحة وظهرت دعوات لفصل دارفور، لكن المجرى العام للتفكير الجماعي لسكانها لم يكن يوماً مع خيار الانفصال أو التقسيم، ولن يسمح مجتمع ولايات دارفور لمثل هذه الترهات أن تتحقَّق ، فكلُّ جزءٍ من مناطق السودان له إسهامٌ عبر التاريخ في تكوين الدولة السودانية بشكلها الحالي، ومُهِرت نضالات السودانيين جميعاً بدماء زكية غالية، والجميع له الحق في وطن واحدٍ مُتجانِس النسيج موحّد الوجدان، فلن تمُر المؤامرات والمُخطّطات بهذه الكيفية السَّاذِجة التي تتحدّث بها بعض الألسن دون الإشارة إلى معطيات حقيقية وواضحة عن قرب مشروع التشظّي والتمزيق والتقسيم، وكأن مجتمعنا له قابلية مُدهشة للانقسام والانشطار دون مبررات ودواعٍ تجعل الأمر ممكناً وواقعاً.
عند البحث عن جذور التوتُّرات والنزاعات المسلحة خاصة بين القبائل نتيجة لموروثات ومحمولات ثقافية وتقاليد بالية وتراكيب نفسية موغِلة في التعصب للانتماءات الدنيا، نجد في الغالب أن النزاعات لا تتم لأسباب سياسية محضة أو استجابة لتخطيط مُسبّق يستخدم الصراعات لتنفيذ وتمرير أغراضه، تثور النزاعات لأسباب تتعلق بالجهل والتعصُّب الأعمى تتخذ ذرائعها من وقائع وحيثيات محدودة لا تقع في دوائر الظلال السياسية، ونذكُر هنا أنه خلال استعار الحروب القِبلية في مناطق دارفور وجرت أنهار من الدماء، تمت دراسة هذه الظاهرة من جهات عديدة وكلها توافقَت على أن السبب الرئيس فيها هو العصبية القبلية والمسببات غير الموضوعية للصراع نفسه، مثل التقاتُل حول مرعى أو نهب بضع أبقار أو جمال أو أغنام، أو خلاف بسبب امرأة أو استفزاز شخصي.
الآن يجري تحميل الصراع والتوتّرات في بورتسودان أو إرهاصات بحدوث احتكاكات قبلية في مناطق أخرى، أكثر مما تحتمل، ويصعب على السلطات والحكومات والجهات التي بيدها القرار أن تتعامل مع هذه القضية إن عاشت في أجواء تُصطَنَع فيها دوافع أخرى للصراعات، يجب أن تتفهم كل الجهات منشأ النزاعات ومُهيِّجات القبائل، وذلك يقتضي دراسات اجتماعية وثقافية عميقة وشاملة، ثم وضع الحلول المناسبة حتى لا تنجرف الحلول وينحرف النظر.
جدلية التهميش والتنمية هي إحدى نتاجات الصراع السياسي، صنعتها النخب المتعلمة في إطار صراعها على السلطة، لكن عندما تنزل إلى الأرض وعلى المستويات القاعدية، لا تجد لها صدىً واسعاً تتطور بموجبه الأحداث حتى تصل إلى نقطة الغليان والانفجار النهائي، وقد حاوَلت النُّخَب السياسية الترويج لمفاهيم تتعلق بالحكم الذاتي والانفصال وتقرير المصير منذ ستينيات القرن الماضي، سواء أكان ذلك في دارفور أو جبال النوبة أو الشرق، وقامت أحزاب وتنظيمات جهوية تنادي بهذه الدعوات، عندما وَجَدَتْ هذه النخب عنتاً في تقاسُم السلطة مع غيرها أو لم تستوعب الأحزاب القومية توجُّهاتها وطلباتها، وتستغل النخب الأخطاء الفادحة للحكومات المتعاقبة وأخطاء السياسيين، والفشل المُستمر في تحقيق تنمية متوازنة ومُلامَسة التطلّعات لدى الأطراف أو لم يتم الاستماع لنداء التمييز الإيجابي لتحقيق التوازن التنموي.