المرأة التي أمسكت بتلابيبي ..!
“العزيمة تحرس كل الفضائل الأخرى وتدعمها”.. جون لوك..!
عندما قرأت في بعض الصحف نبأً طريفاً مفادُه أن السلطات الصينية قد حذَّرت مواطنيها الذين يذهبون للسياحة في الخارج من البَصْق أثناء سيرهم في الشوارع – في محاولة صارمة لتحسين صورة المواطن الصيني في الخارج – لم أضحك، وكنت قد توقفت منذ عهد ليس بقريب عن الشعور بالدهشة إزاء كل ما يقوله أو يفعله أي مواطن صيني ابتداءً من رئيس البلاد.. مروراً بيونغ تشانغ التي ألهبت روحي روايتها الهائلة “بجعات بريَّة” بذات القدر الذي صفعتْ به رصانَتي فبتُّ أثرثر عنها لكل من حولي.. وانتهاءً بالسائح الذي تتوعده الحكومة بالويل والثبور إن هو عاود اقتراف جريمة البَصْق في شوارع الناس مجدداً..!
ليس لأنهم قد فقدوا بريقهم وتوهجهم في هذا الصدد – لا سمح الله – أعني مقدرتهم الفذة على إدهاش الآخر المغاير أينما وكيفما كان – فهم لا يفقدونها أبداً تحت أي ظرف، إنما العيب في شهيتي وقابليتي للاندهاش التي أفقدتني إياها رواية “يونغ تشانغ” التوثيقيّة الملحميّة الضخمة التي أمسكت بتلابيبي على نحو لافت فظللت أتأرجح في قراءتها بين الشراهة في التهام بعض فصولها على طريقة أفراس النهر حيناً، وبين تذوق البعض الآخر ومضغه بهدوء وتكلُّف كونتيسات القرن التاسع عشر أحياناً أخرى ..!
أما بعد فراغي من التدرج في كيفيَّة التهامها – أي في مرحلة التلمظ تحديداً – فقد داهمتني دفقة العذاب الشهيرة إياها التي تعقب قراءة النصوص الفذَّة، عُشـَّاق القراءة يعرفونها جيداً و – كعادتي أقول – لمن لم يصل إليها بعد: هي ذلك المزيج المتناغم بين الخدر اللذيذ والتحديق ببلاهة في الفراغ أمامك لفترة قد تطول أو تقصر، الأمر مرهون بتفاعلاتك الداخلية..
دفقة العذاب الشهيرة تلك يتلاشى تأجُّجهَا تدريجياً ويَخفُتْ يوماً بعد يوم إلى أن تُصبح مجرد قطعة مطرزة صغيرة وجميلة في قماش الذاكرة الناعم، نعود إلى استنهاضها كلما سنحت لذلك سانحة .. كسانحة السُيَّاح المذكورة آنفاً..!
المرحلة التالية هي مرحلة الالتفات أو التَلفُّتْ على طريقة الشريف الرضي “وتلفتت عيني فمذ خفيت عني الطلول تلفت القلب”، وهكذا، يتلفَّت قلبك صوب الكتاب بعد أن يأخذ مكانه بين الكتب الأخرى في مكتبتك كلما مررت من عنده “مُتلَكِّكَاً” على طريقة مرور الشريف الرضي ذاتها، وقد تفعل ما فعلت أنا مع بجعات يونغ تشانغ بأن تدعو الله متظارفاً أن يمنحنك ذاكرة أخرى أو أن يُقرِضَك أحدُهم ذاكرته لا لشيء إلا لتعاود الالتهام و.. التذوق و.. التلمظ و.. الاندهاش .. ومن ثم الوصول إلى دفقة العذاب التي أسهبنا في وصف روعتها..!
أما لماذا أفقدتني تلك الرواية دهشتي إزاء كل فعل أو قول صيني فلأن يونغ تشانغ تلك الصينية “الجريشية” اللون، كما يحلو لي أن أتظارف بتلقيبها –”والجريش لمن لا يعرفه عصيدة سعودية تصنع من حب القمح المجروش والحليب أو اللبن” – أستطيع أن أزعم أنه لا يوجد وصف يحاكي لون بشرة الصينيين أكثر توفيقًا من الجريش – “في كل مرة أحاول وأعود للجريش!” .. إن تلك الصينية الباسلة قد أبدعت في توثيق دراما واقعية لحياة نساء ثلاث – هُنَّ جدّتها وأمُّها – وهيَ نفسُها – منذ عصر أسياد الحرب مروراً بعصر الاحتلالين الياباني والروسي إلى حين اندلاع الحرب الأهلية بين الكومنتانغ والشيوعيين ومجيء الثورة الثقافية والحكم الشيوعي في ظل عهد “ماو تسي” بتمرحله وانعطافاته السياسية النَّزقة التي كان أبرزها إدارة ظهره للروس ومولد الشيوعية الصفراء وانتهاءً بموته..!
يونغ تشانغ – التي تعرض أبواها للقهر والنفي إلى معسكرات العمل البعيدة فجنَّ والدها وانطفأ تدريجياً إلى أن مات، أما هي ولما تبلغ العشرين فنفيت إلى أطراف جبال الهملايا – سطرت هذه الملحمة ونشرتها بعد خروجها من الصين في عام 1978م في كتاب مليء بالغرائب والعجائب والفظائع التي أرهقتني محاولات ابتلاعها، كيف يمكن للمآسي الإنسانية أن تمتد عبر جيلين فأكثر في عائلة واحدة بكل هذا الزخم المؤثر؟! وكيف يمكن لشعب واحد بل لجيل واحد أن يحتمل كل هذه التقلبات العنيفة والهزات الساحقة دون أن يفقد جلده ؟! .. وكيف يمكن لشعب أن يكون بهذه القوة وأن يملك تلك الإرادة الفولاذية التي جعلته يصهر الفولاذ نفسه يدوياً وبطريقة بدائية ومميتة ليصنع دولة قوية..؟!
إن الشعب الذي يستطيع أن يحتمل كل هذه المآسي والفظائع يستطيع ببساطة – وبكل سرور – أن يكف عن البَصْق في شوارع الناس، من أجل تمثيل بلاده بشكل لائق..!
منى أبوزيد