“الحكاية العاطفية – الواقعية – مثل قصيدة الحرير، التي تبدأ بتخلُّق دودة قزٍّ، وتنتهي بوشاح باهظ الثمن“.. الكاتبة..!
يَشعل الناس ثوراتهم لانتزاع الحقوق ورَدّ المظالم، أمّا ثورتي فقد أضرمتها كي أتنازل عن حقي وكي أقنع الآخرين بأنّ ما يَرونه ظُلماً أراه أنا عين العدل.. لم أتعمّد شيئاً ولم أخطِّط لشيءٍ.. والرجل الذي أشعلت لأجله ثورتي تعثَّرتُ به ذات نهار خريفي غائم.. قصدته كي أتتلمذ على يديه في مهنة الادّعاءات والدفوع والتقاضي والأحكام..!
تُرى هل كان عمِّي يحتطب في ظلام الغيب عندما قال مُخاطباً صديقه وهو يشير نحوي دون أن يلتفت إليَّ:
ـــــ أها يا أخوي.. ليكم اللحم ولينا “العَضُم”..؟!
هل استشرف بحاسته السادسة ما كانت تُخبئه الأيام التي أعقبت تلك الساعة من مُفاجآت لم تكن لتخطر لثلاثتنا على بالٍ.. أم تراها كانت لحظة من تلك السانحات التي يُشرع فيها ستار الغيب على مشهدٍ ما.. فيرى من يسعده الحظ أو يشقيه بانقشاع الغيب عن بصيرته، لبضع ثوانٍ، لقطة مُستقبلية (ما)..؟!
بدأت زيارتنا، عمِّي وأنا إلى مكتب الأستاذ – في ذلك الصباح الخريفي الغائم- بأحاديث المُجاملات المُعتادة، ثم أخذت طرائف مهنة القانون التي ينتمي إليها ثلاثتنا قسطاً وافراً من (ونستنا) المُشتركة، قبل أن يشرع كلاهما في تبادُل ذكريات ثنائية أخرجتني طوعاً عن دائرة (الونسة) وحصرتني قسراً في خانة الإيماءات والتبسُّم ..!
عندما آن الأوان بحسب تقديراته، رشف عمِّي آخر رشفة من فنجان قهوته، ألقى نظرة سريعة على ساعته، اعتدل في جلسته على نحوٍ مُفاجئٍ، ثم سعل عدة مرات قبل أن يبدأ بسرد القصة إيّاها على مسامع الأستاذ:
“ألححتُ عليه.. سبّبت له صداعاً مُزمناً.. طفرتْ الدموع من عيني.. رجوته باكيةً أن “يُكلِّم لي” الأستاذ كي يمنحني شرف التدرُّب داخل إمبراطورية المُحاماة العريقة التي يمتلكها ويُديرها بكفاءةٍ جعلت منه المثل الأعلى للمُحامين المُبتدئين من أمثالي”..!
أومأ الأستاذ برأسه مُجاملاً، مُتظاهراً بأنه قد اقتنع بمُبالغات قصة عمِّي المليئة بالثقوب، والتي كان كبريائي يلح في تكذيبها، مُرسلاً اعتراضه عليها عبر نظراتي الفاترة، وإيماءاتي الخاملة، وذلك التعبير الجامد، المُحايد، الذي غام به وجهي..!
حكاية “اللحم والعظم” التي أطلق عمِّي – بعدها – ضحكته المُجلجلة، كانت صيغة الإيجاب التي اختار أن يضمِّنها رغبته الرسمية في انضمام ابنة أخيه إلى باقة المُحامين الشباب، المحظوظين بالعمل في مكتب الأستاذ.. وعلى طريقة المُحامين – أيضاً – اختار الأستاذ أن يُعلن قُبُوله بتكرار صيغة الإيجاب الصريحة:
ـــــ اتّفقنا..!
خرجنا على وعدٍ بأن أعود في اليوم التالي – في صباحه الباكر تحديداً – لأتسلّم عملي رسمياً في ذلك المكتب الأنيق، مع صديق عمِّي، ذائع الصيت في أوساط المُحامين..!
رافقنا الأستاذ إلى باب المكتب الرئيس، وهو يتمتم بعبارات المُجاملة المُعتادة.. هَممت بمُصافحته وأنا أتمتم بدوري بعبارات الشكر، عندما قاطعتني ضحكات ودودة أطلقها عمِّي، مُستهلاً بها سلامه الحار على سيدة في منتصف الأربعينات، ذات جمال هادئ وعينين لامعتين، انبثقت – على حين غرة – من فتحة باب المكتب المشرع:
ـــــ سلمي على زوجة الأستاذ..!
بادلتني زوجة الأستاذ الإيماءات والتبسُّم وهي ترمقني بنظرة فاحصة طويلة أثارت دَهشتي.. لكن عمِّي ما لبث أن قطع عليها سياحتها في ملامح وجهي بأن استأذن مُودِّعاً..!
عندما التقينا لأوّل مرة في ذلك الصباح الخريفي الغائم، فكّرت بأنّ زوجة أستاذي الجديد، امرأة غيور.. تغار عليه من تاء التأنيث على إطلاقها.. ضحكت عليها بلا مبالاة الغافل عمّا يتخلَّق في رحم الغيب.. قبل أن يعود باهتمامه لتفاصيل أكثر أهميةً وخُصُوصية..!
أترانى كُنت سأضحك، كما ضحكت، لو انقشعت عنِّي بعض حُجب الغيب ساعتئذٍ، فعلمت أنّني وتلك الزوجة الغيور – التي صادفتها على باب المكتب في ذلك النهار الخريفي الغائم – سوف نتشارك قلب زوج واحد..؟!
منى أبوزيد