غريب في بيتي
نردد دائماً أن للغربة ضريبة باهظة، برغم مكاسبها المالية المجزية وتأسيسها لمستقبل مضمون نوعاً ما؛ تبقى مثالب الغربة أكبر كثيراً من مزاياها، ولا تقتصر تلك المثالب على مرارتها والبُعد عن الأهل والأحباب وضياع العمر بعيداً عن رحاب الوطن، ولا على الإحساس
المؤلم وأنت تصبح أجيراً لأحلام شعب آخر مقابل سيارة فارهة وبيت فخيم وحزمة من أوراق العملة الصعبة ندخرها للأيام الحالكة.
* إن مأساة الغربة الحقيقية تبدأ بعد العودة إلى الأهل والوطن، ولا تندهشوا من ذلك، فأقسى أنواع الغربة تلك التي يكابدها المغترب العائد إلى أرض الوطن بين زوجته وأبنائه، وداخل البيت ذي الجدران الاسمنتية الباردة التي استهلك بناؤها سنوات من عمره الغض قضاها
بعيداً عن أبنائه وهم يكبرون في غيابه ويشكلون ملامح شخصياتهم المستقلة دون أن يكون هو في الحسبان؛ لأنه غائب وبعيد، وقد اعتادوا تكييف حياتهم على هذا الغياب، فإذا به يعود فجأة ليعلن عن أبوته المؤجلة ويحاول أن يستعيد سلطاته ويمارس سطوته كأبٍ لم يكن موجوداً
حين دعت الضرورة وتاقت طفولتهم المبكرة لهذه الأبوة!
* وهكذا، ينمو جدار شاهق من الجفوة بين الأب العائد للاستقرار مع أبناء شبوا عن الطوق وهم يسقطونه من جميع حساباتهم مستغنين عن وجوده وتوجيهاته، ليبرز لهم فجأة وتبدأ المشاكل والخلافات، ولا يتوانى الأبناء عن إعلان ضيقهم من وجود هذا الأب صراحة، ويبدو
ذلك واضحاً في برودة العلاقة والحوار الصامت وتجنب أية مواجهة أو لقاء مباشر مع حضرته، وحتى الطلبات والاحتياجات يتم إبلاغها لهذا الوالد عن طريق وسيط رفيع المستوى، هو الأم، التي تكون بدورها قد اعتادت على غياب هذا الأب وتصريف شؤون حياتها وحياة أبنائها بدونه، فلا تنفك تشعر بالضيق من عودته ومحاولاته لإقصائها عن السلطة وهي ترى أنه غير مؤهل لإدارة حياتهم كما يجب، أو كما هو معتاد؛ نسبة لغياب العديد من التفاصيل عن علمه، ولعدم درايته الكافيه بالشكل العام لحياتهم والخطط التي وضعوها لتسيير أمورهم وحتى طبيعة الأشياء التي يحتاجونها دائماً.
* عليه، يتحول الأب العائد من الاغتراب إلى «غريب في بيته»، يحاول مستميتاً اللحاق بما فات، وفرض سطوته كما يراها؛ لتتفاقم الأزمة، فهو يرى أنه قد أهدر عمره لأجل هذه الأسرة التي ما عادت ترى في وجوده ضرورة، ولا يرون فيه سوى حافظة ممتلئة بالنقود
فحسب، وقد كان يرجو حين عودته أن يتلقوه بالحفاوة والدموع و(يبوسون) الأيادي على ما أنجزه لأجلهم ويعيدون إليه مقاليد السلطة والسطوة والأبوة المؤجلة مثلما منحهم هذه الثروة الغالية.
والأدهى من ذلك أن العلاقة الزوجية بفعل الاغتراب قد تتحول إلى حالة من اللامبالاة والبرود العاطفي لأسباب مختلفة لدى الطرفين أبرزها الإحساس بالغربة الحسية
والاعتياد على البُعاد.
* والعديد من الرجال المغتربين – للأسف – يمعنون في قضاء السنوات بعيداً عن عائلاتهم لا سيما الزوجات دون مراعاة لحقوق أو واجبات أو اعتبار للمدى الزمني المناسب للصبر على الفراق كما ورد في الشرع وفي كل الأعراف الإنسانية التي أمعنت البحث في الحاجات
الإنسانية ومعدل القدرة على الاستغناء عنها، ربما لهذا برزت أزمة جديدة هي أزمة ثقة قد تصل إلى حد الخيانة بمختلف معدلاتها وبمبررات فطرية تلعب النفس البشرية الأمارة بالسوء فيها دوراً بارزاً.
* ويبقى السؤال المنطقي: هل يظل الزوج المعني طوال هذه السنوات خارج حدود الوطن دون امرأة في حياته؟! وهل يقضي أيامه في جمع المال فحسب؟ وهل ينتظر من زوجته أن تبقى راهبة في محراب الوفاء له دون أن تنتابها الرغبة في التمرد على هذا الإهمال وعدم مراعاته لإحساسها واحتمالات الشوق والحاجة إليه؟!
أرجو ألا يخرج عليّ بعضكم منددين بفكرتي السالبة السوداوية هذه حول مثالب الاغتراب الذي لم أنكر مزاياه منذ البداية ولم أعمم المسألة، ولكننا ندرس كل الجوانب الاجتماعية للحالة ونمعن النظر في الجانب المظلم لنسلط عليه بعض الضوء، وهذا لا ينفي وجود أسر
ناجحة جداً أسهم الاغتراب في نجاحها دون أن ينال من تماسكها العائلي والأخلاقي، ودون أن يتسبب في حدوث أي خلل في منظومتها الطبيعية، غير أن واقع الحال أيضاً يشير إلى العديد من الإشكالات والتباعد والأزمات التي يعاني منها البعض جراء غياب الوالد ردحاً من الزمن وبقائه خارج إطار الصورة التي اعتاد عليها أهل بيته ورغبتهم الخفية في أن يبقى خارج هذا الإطار مهما حاول هو العودة إلى داخله وبشتى الطرق.
تلويح:
ما كنت دايرة أقولو ليك..
لكن “لسان الحال” غلب