قد تُرى أو تُظَن التحوّلات الجارية في المنطقة العربية وعند حواف الجوار السوداني للوهلة الأولى، أنها غير ذات أثر على راهن البلاد السياسي، وعلى مستقبل الأوضاع الحالية، فبغض النظر عن النتائج والمآل الذي ستنتهي عليه كثير من الملفات الإقليمية، يمكن أن نلحظ الحجم الهائل لانعكاساتها على السودان، وعلى تركيبته الحاكمة، ويستطيع المُدقّق في بعض الأقوال والأفعال في الداخل متابعة ارتباطها الوثيق بما يجري في الخارج، ويكتشف أن هناك خيطاً وإن بدا رفيعاً يجمع ما بين الجاري عندنا وهو ينتظر ما تسفر عنه تغييرات الموقف الخارجي وبين التوازُنات الإقليمية الجديدة.
ليس خافياً أن هناك تحولاً كبيراً سيطرأ في ملف الحرب باليمن، بكل محمولاته وأبعاده وتمخّضاته السياسية والأمنية على دول المنطقة ومنطقة البحر الأحمر والخليج العربي، فتوقّف الحرب في اليمن وما ينتج عنها سيخلق بيئة جيوستراتيجية مختلفة في كل المنطقة وامتداداتها، وسيتجاوز جدل المنتصر والخاسر إلى فضاء أوسع من ذلك، تنشأ أنساق وتحالُفات وواقع مختلف عما سبق ، فقد بدأت الخطوات العملية لإنهاء الحرب بالتفاهُمات الحالية ويجري قريباً سحب الجيوش وإعادة انتشارها بما في ذلك القوات السودانية المشاركة ضمن التحالُف الإسلامي الذي تقوده المملكة العربية السعودية، بجانب ذلك باتت وحدة الصف الخليجي وتجاوُز حالة الخلاف بين دول هذه المنطقة أقرب للتسوية خاصة بعد تصريحات وتعليقات صدرت من الإدارة الأمريكية أنه لا توجد أية نية للمساهمة الفاعلة لإنجاح مفهوم لأمن خليجي من دون وحدة الصف الخليجي نفسه، وتنشط سرّاً وفي الكواليس تحرُّكات حثيثة لتسوية الخلافات وعما قريب ستُعلِن الوساطة الكويتية أو أطراف دولية أن الأزمة الخليجية في طريقها للحل، وستتهيأ المنطقة لتراكيب وتدابير أخرى، ويُخشى حينئذٍ، أن يكون ملف السودان هامشياً على الطاولة الخليجية المُوحّدة، أو يحدُث العكس (وهذا ليس مُرجّحاً بنسبة كبيرة)، أن تتّفق الأسرة الخليجية على دعم السودان ومُساندته للخروج من ظروفه الراهنة .
في جانب آخر في التحولات التي تؤسس لتوازن إقليمي جديد، هو توقّع تسوية في الخلاف المصري الأثيوبي حول سد النهضة، وإذا حدث تفاهُم بين الجانبين بعد التدخّل الأمريكي المُباشر، ووجود البنك الدولي والاتفاق على التسوية المُرضِية للجانبين، سيكون السودان أيضاً طرفاً هامشياً، لأن كسبه أو خسارته في ملف سد النهضة لم يكن حاضراً على منضدة التسوية، وتم التعامُل معه على أنه بلد عبور وممر للمياه، ولم يكن جزءاً من الخلاف الناشِب بين القاهرة وأديس، فإذا اتفق طرفا الخلاف وضمن كل طرف نصيبَه وحقَّه، فَلِم الانشغال بالثالث الذي لا يهم إن ربح أو خسر. ومعلوم أن موقف السودان في ملف المياه كان يمكن أن يستمر فاعِلاً ومؤثّراً في إطار الحوار الثلاثي بين دول حوض النيل الشرقي، لكن التدخّلات من خارج المنطقة وإمساك القوى الكبرى في العالم بالملف ترتّب عليه واقع جديد، لا مكان فيه للاعب في خانة الوسط.
الأهم في هذه التحوّلات سواء في اليمن والملف الخليجي وقضية سد النهضة، هو كيف سينعكس ذلك على السودان؟
أولاً: لم تجِد حالة التغيير السودانية وبكل ما أحدثته دعماً حقيقياً ملموساً من المجتمع الدولي ومؤسساته الاقتصادية بما ينتشل السودان من أزماته الاقتصادية وتعقيداته السياسية والأمنية، وكان الحصاد ضعيفاً مقارنة بالآمال التي عُلقّت على السند الغربي والعربي، وهذا يعني أن الرغبة والحماس لتعضيد موقف التركيبة السياسية الحاكمة الآن ومعاونتها غير مُتوفّرين حالياً، وهناك أطراف دولية وإقليمية في إطار التوازن الإقليمي والصراع بين القوى التقليدية والتيارات الحديثة في المنطقة، لا تريد أن تتطوّر وتنجح الثورات الشعبية والديمقراطيات القائمة على التحوّلات العاصفة، وستعمل هذه القوى على صناعة الارتدادات العكسية وصناعة تركيبة سياسية تجمع هجيناً ذا اتجاه شمولي وقوى سياسية مُعتدلة سهلة الضبط لإدارة السودان بعيداً عن الهيجان الشعبوي.
لذا، من يقرأ تصريحات قيادات سياسية لأحزاب داخل الحرية والتغيير وما تحت سطور أقوالها يجد ملامح من التوقّعات القادمة، خاصة ما ظلّ يُنادي به السيد الصادق المهدي أو بالونات الاختبار بعودة صلاح قوش أو الدعوات لانتخابات مبكرة، لكن أخطرها على الإطلاق ما قاله عرّاب الحكومة المدنية الشفيع خضر الذي استشعر خطر التحوّلات الإقليمية والتوازُنات في المنطقة وشعر بخطورتها على تجربتهم الوليدة كناشطين سياسيين، فقدم تصوّراً حاذقاً للغزل مع الإسلاميين أن الأوضاع تحتاج إلى مساومة تاريخية بين اليسار والإسلاميين تُنهي الصراع بينهم وتؤسّس لاستقرار في البلاد، هذه حالة فزع حقيقية من أثر التحوُّلات الإقليمية على السودان وبأنها ستنفخ بقوة على لهب الشمعة الواقفة في مهب الريح، ويعرف الشفيع خضر أن لا كابح من أثر هذه التحولات إلا هذا التحالف المستحيل …!