تدّب دبيباً في الساحة السياسية هذه الأيام، أحزاب وتنظيمات جديدة من مختلف الاتجاهات والمنابت والمدارس الفكرية والأطياف السياسية، وسيزيد عدد الأحزاب ليصل إلى بضع مئات، حيث تتناسَل وتنقسِم وتتكاثر أحزاب تُولَد من أرحام بعضها، بما يشبه الفوضى العارمة والانشطارات الأولية للأميبا وانتشار بكتيريا التحزّب، ولا توجَد فروق واختلافات جوهرية بين هذه الأحزاب المُنتشرة كالجراد، بينها أحزاب لم تزل مسجلة بقانون الأحزاب وبعضها بلا تسجيل، وسينفرط العقد قريباً وتمتلئ البلاد حتى أعلى أذنيها بطنين حزبي يملأ الآفاق، وتستعِر حُمّى السياسة وتزيد من آلام البلاد الموعودة بالانقسامات والصراعات الحزبية غير الراشدة، وقد تكون الديمقراطية الرابعة هي الأسوأ بين مثيلاتها من الفترات الديمقراطية التي مرّت بالبلاد منذ الاستقلال.
مأزق جميع الأحزاب إلا قليلاً، أنها بلا كبير وبلا قيادة، لقد فقدت الحياة السودانية كبارَها، وغابت شمس القدوة من سمائنا السياسية، ونزع الزمن الأوتاد التي كانت تُثبّت قيم وأعراف الممارسة الحزبية وتُرسّخ الإيمان بالديمقراطية وتقاليدها وقيمها، فكل ما نشاهده اليوم هو عبث فادِح سيُكلّف البلادَ الكثير، فالأوضاع الهشّة والخشية من الانهيار والتمزّق شبحان يُخيّمان ويجثُمان فوق هذه البلاد، ولا توجد أية بارقة أمل في وجود مسؤولية وطنية يتحلّى بها من يملأون الملعب السياسي، تعصم البلاد من الوقوع في الهاوية.
ستزيد كثرة الأحزاب، وهي بلا هدف ولا منهج ولا رسالة ولا مضامين ولا أفكار، من فرط الاختراق الأجنبي، والتشظّي الاجتماعي، خاصة أن مجموعات من هذه الأحزاب واجهات قبلية ومناطقية وحركات مسلحة وعملاء وأشباه عملاء يجوبون الخرطوم طولاً وعرضاً بلافتات حزبية وواجهات سياسية يتسولون بها ويستخدمونها كسُبل كسب العيش، ومن عجبٍ أن الضوابط القانونية والقواطِع اللائحية لم تمنع هذه الظواهر أو تحُد منها، وباسم الحرية المُطلَقة التي يُنادي بها الجميع، بات مُتاحاً وسهلاً أن يضع كل صاحب مطمع بردعته على ظهر مُسمّى حزبي ويرفع عقيرته بدعوة بائسة باسم حزبه المنحوس.
من الواجب أن نتوقف قليلاً عند ظاهرة الأحزاب السياسية التي تتوالَد كما البعوض في بلادنا، بينما تكاد تغرُب شمس الحزبية في كل العالم وبهتت صورة الحزب أمام اللاحزبي واللامنتمي، وبات الطريق مُمهّداً أمام الشعبوية التي أزاحت النخبوية السياسية حتى في دول كبرى في عالمِنا مثل الولايات المتحدة وفرنسا، ومؤخراً اختارت تونس رئيساً من خارج السياق السياسي والحزبي، وقدّمت نسختها الخاصة بها، وكانت زاهية وجاذِبة سيكون لها ما بعدها في العالم العربي..
مع اتساع نطاقات المعرفة وثورة الاتصالات والانفجار الهائل في تبادل المعلومات وتداولها، لم تعُد مؤسسة الحزب تًغري الناس بالانتماء، فالعالَم الافتراضي يُقدّم الآن بديلاً هلامياً للانتماءات الواقعية، والغريب أن يشعُر الإنسان بالرضى عن انتمائه الافتراضي، ويستعيض ويُعوّض حاجته للكيانات السياسية، بأن يعيش وسط موج هائل ومضطرم من المعلومات والرغبات والأمزجة والأهواء والخيارات، فالعالم بلا فواصل ولا متاريس ولا حدود تفصل ما بين الفكرة مع تجلياتها السياسية وبين المُنهمِر مثل المطر من أمشاج سياسية وفكرية واجتماعية تكون الأجنة المشوهة للإنسانية في طورها الرقمي الجديد.
لهذا السبب أو ذاك، يُصاب المرء بالسأم، فيبحث عن الجديد، ويتخلى عن ما يربطه بالقديم والمألوف، أو تتضخّم طموحاتُه وتطلّعاتُه وأطماعه الذاتية غير المرتبِطة بالصالح العام، فيتقلّب في الخيارات، ويُقلّب وجهه في السماء المُكفهّرة الممتلئة بُحطام الأحزاب أو بالحزبية المُحطمة. فعندما نرى هذا التناسُل والانتشار والكثرة والتوالًد الذّبابي للأحزاب السياسية، فإن ذلك دليل وباء قاتل للديمقراطية التي لا تنتعش بكثرة الأحزاب، إنما بسلامة وصحة أجساد هذه الأحزاب من العِلَل، وقدرتها على إنتاج الأفكار، وقوة مناعتها الذاتية من الاختراق والتسفُّل، وقابليتها أن تتطور إلى آفاق تخدم الإنسان وتنقله إلى فياح الحرية والعدل والسماحة والحكم الرشيد.. يا ويل ديمقراطيتنا الرابعة من شر قد اقترب..!