لم يكن أحد عاقلاً ومنصفاً وأميناً من السودانيين يتصوّر أن يخرج سوداني يشعر بوطنيته وعمقها وقيمة وطنه ورسوخها في نفسه، لينادي من داخل الخرطوم بحل الجيش السوداني..! وإهالة التراب على التاريخ الطويل العريق الناصع لهذا الجيش!!! وهذا ليس الغريب وحده، الغريب هو أن يمر هذا الحديث الملقى على عواهنه ومن نفس تعاني اعتلالاً في انتمائها لهذا التراب وتقاسي غربة في الروح وفواجع من هول الضياع، أن يمر الحديث دون مواجهته بردة فعل ترد السهم على مُطلِقِه، وقد جاء هذا التجنّي والزيف متزامناً مع ذكرى أعياد الجيش التي تحتفل بها البلاد هذه الأيام ..
هل يستحق الجيش السوداني وهو المؤسسة القومية التي حافظت على سلامة بلادنا وأمان مجتمعنا، وخاضت امتحانات وظلت في أتون الحروب المفروضة من قبل الاستقلال من` التمرد الأول في أغسطس ١٩٥٥م حتى يومنا هذا، عندما انتشر التمرد في أجزاء واسعة من البلاد، هذه المؤسسة التي لم تنهار ولم تنكسر منذ تأسيسها، وهي قامت لحماية التراب وحراسة الأمة، وقد انهارت وانكسرت جيوش حولنا بمجرد تغيير الأنظمة في بلادها، لكن جيشنا بقي عنواناً للفداء والتضحيات وهو الأقرب إلى روح الشعب وتطلّعاته ..
إذا كان البعض يُحاول أن ينسب للقوات المسلحة الانقلابات العسكرية فقد برأها كثير من القادة السياسيين باعترافهم أن الأحزاب السياسية هي التي تصنع الانقلابات وتدبّرها، وهي التي تزرع خلاياها داخلها، والقرار دائماً في الانقلابات قرار سياسي غير مُتّفقٍ عليه من المؤسسة العسكرية حسب تراتُبيّتها ونظامِها، بينما تنحاز في المقابل القوات المسلحة للشعب في ثوراته بكاملها..!!
نحن نعرف لماذا الهجوم على الجيش والمناداة بحلّه، لأنه الدرع الذي تكسّرت عليه كل نصال المؤامرات الخارجية والداخلية، وهو الملاذ الذي يلجأ إليه الشعب عند الملمات والحصن الذي يأويه، ونعرف أيضاً أن اليسار وخاصة الشيوعيين ومعتنقي الماركسية وأشباه الوجوديين هم بلا انتماء، فكرتهم وفلسفتهم السياسية تقوم على الأممية وتناهض القومية أو القُطرية، ولا تعرف قيمة التراب الوطني، هم يريدون ثورة أممية كما نادى بها أسيادهم وطبّقوها، والأسوأ من بين هؤلاء جميعاً هم اليسار الأمريكي وعملاء الغرب، الحالمون بسودان آخر ليس هو سوداننا الذي نعرفه وننتمي إليه..
(قبل الطوفان)
كل يوم تزداد الأزمة السياسية والاقتصادية تعقيداً، دون أن يلوح حلٌّ في الأفق أو المدى القريب، وليس بسبب عدم معرفة أهل الحكم بطرق وكيفية الخروج من هذه الوحول اللّزِجَة وهذه واحدة من العوامل التي أدت إلى تراكُم أزمات البلاد وتفاقُمِها واستفحالها، إنما لغياب الإرادة السياسية القوية والإدارة ذات الكفاءة العالية التي تستطيع التعامُل مع الأوضاع المُربِكة وتستنبط الحلول المناسبة حتى تضع البلاد أرجلها في المسار الصحيح. وبالنظر إلى المطروح حالياً من الحكومة الانتقالية عليى الصعيدين السياسي والاقتصادي، تتضاعف مشاعر الإحباط بعدم تمكّن البلاد من تجاوُز هذه الحالة الراهنة ويزداد الإحساس بفقدان الأمل في ظل تعثّر الخطوات الماضية إلى نهاية للاضطراب والتيه ..
بما أن الفترة الانتقالية التي تُديرها الحكومة الحالية، كانت ستكون فترة لبناء مشروع وطني يقوم على هدي شعارات جديدة وانبثاق آمال في نهضة تقوم على قواعد سليمة، إلا أن الانتكاس الذي يحدث الآن سيجعل منها فترة للتوترات والتجاذب السياسي وحصاد الهشيم، وذلك لعدة أسباب أهمها أن الحكومة وحاضنتها السياسية لم يُرتّبا الأولويات المطلوبة، وطفقا يبحثان عن مغانم سياسية ذابلة، والغرق في قضايا وتفاصيل تزيد من تعقيد الأزمة بكل مضاعفاتها الاجتماعية والسياسية، ولا سبيل الآن بعد أن وجد الجميع أنفسهم أمام نُذُر الاحتقان والمواجهات، إلا بالبحث عن مخرج آمن للبلاد قبل أن يداهمها الطوفان… والكُل بدأ يشعر بأنه قادم لا محالة إن لم يتداركهَم اللهُّ بالعناية ..!