في النسبة والتناسب..!
“إن كان تغییر المكروه في مقدورك فالصبر علیه بَلادة والرضا به حُمق” .. علي الطنطاوي..!
یا سبحان الله! .. كم له في البشر الخطاءین شئون .. قناة دینیة شھیرة زارت بیوت بعض الفقراء في بلاد الحرمین، قائد الركب كان داعیة مرموق اشتھر بلطف الحدیث وحُسن القبول .. الشیخ یطرق باب أسرة فقیرة تسكن أطراف المدینة، فتأذن له ربة البیت بالدخول، یمد یده بظرف سمین تتلقفه مضیفته المتلفعة بالسواد وھي تلھج بالشكر ..!
یسألھا الشیخ وھو یغض بصره عن ستائرھا المسدلة : “كیف تتقون یا أُخیَّتي ھجیر الشمس في ھذا العراء، ھل عندكم أجھزة تكییف” ؟! .. فتقول له : لا نملك مكیفات
“فریون” لكننا نستعیض عنھا بمكیفات “مویة”! .. یدعو لھا بالفرج، قبل أن یسألھا – مُستدركاً – عن إعانات الحكومة ..!
السیدة تقول إنھم یتسلَّمون من الحكومة كل شھر مبلغ ألفی ریال (حوالي مائة وبضعة وثمانين ألف جنيه!) وھي تكفي بالكاد لإیجار شقة داخل المدینة .. وھم یسكنون في أطرافھا – كما یرى – لأنھم ینفقون إعانة الحكومة على معیشتھم .. بعدھا یتحلَّق الصغار حول الشیخ، فیقبلھم بحنان ثم یسأل والدھم ھل یذھبون إلى المدرسة ؟ .. فیجیبه الوالد بأن “باصات” الحكومة تنقلھم من وإلى مدارسھم .. یُطرق الشیخ في حزن عمیق، حتى ظننته سیقول “معقولة .. ما عندكم سوَّاق” ..؟!
یأخذوننا إلى الأستودیو، فیطل علینا فضیلة الشیخ ودموعه تبلل لحیته: “عباد الله .. ما ذنب ھؤلاء الأطفال .. الواحد منا قد یشتري ساعة بعشرات الآلاف، بل أنه قد یشتري لطفله لعبة بمئات الریالات، ثم یكسرھا الصغیر في نصف ساعة .. بینما یعیش أولئك المساكین على مثل ھذا المبلغ أیاماً .. نتقلَّب في النعیم وغیرنا في الضنك وشظف العیش .. والله سبحانه وتعالى یقول (ولتسئلن یومئذ عن النعیم)، وأبو ذر الغفاري یقول “عجبت لمن لا یملك قوت یومه كیف لا یخرج إلى الناس شاھراً سیفه”..!
أما نحن في السودان فنقول لفضیلة الشیخ: عجبًا لمن یملك ما یشتھیه من قوت یومه ثم یخرج إلى الناس متحدثاً عن حاجته .. فقراؤكم فقراء “الھنا” و”عشوائیاتكم” عشوائیات السرور .. أجھزة تكییف .. وجدران أسمنتیة وسیرامیك .. وإعانات حكومیة .. و”باصات” مجانیة تنقل أطفال فقرائكم من وإلى المدرسة .. نقول له: عجبًا لفقر یعبر ھاجس الجوع والمرض وانقطاع التعلیم، ویتجاوز توفیر المأوى وامتلاء المعدة إلى رفاھیة الحواس وكمالیات المعیشة ..!
لا تقل لي إن بلادھم غنیة وھي بالتالي مسألة نسبیة .. لأنني سأقول لك: الله یفتح علیك، خلینا في النسبیة! .. أین كانت تلك النسبیة من ثروات أصحاب السعادة في بلادك مقارنة بأموال أصحاب المعالي في بلادھم ؟! .. في كتاب الله مائة آیة إنفاق وعشرون آیة صدقة .. يا أيها الأغنياء تصدقوا على الفقراء بفتات حقوقھم .. وذلك أضعف الطغیان ..!