البدوي.. في مرمى نيران الجميع
الخرطوم: نجدة بشارة
من البديهيات وحتى المسلمات أن تظل بعض القضايا المتعلقة بالأمن الأقتصادي (القومي) للدولة خطاً أحمر، تناقش فقط داخل الغرف المغلقة ولا يتجاوزون بها أسوار مجلس الوزراء على أقل تقدير، إلا في حال الضرورات، أو وفقاً لترتيبات واحتياطات مسبقة تعدها الحكومة، لكن وزراء الحكومة الانتقالية مؤخراً ابتدعوا سنة جديدة للخروج بمشاكل الدولة وأزماتها إلى العلن (بكشف المستور) غير آبهين بمآألات تصريحاتهم (المشاترة)، وخطورتها على البلاد والعباد، فتركوا الأسئلة تجول بأذهان العامة هل خطاباتهم السياسية تلك لأغراض (الشفافية والمصداقية ) أم لقلة حيلتهم..؟ ومعلوم أنهم جاءوا وأزمات البلاد (على شَفَا جُرُفٍ هار)، وإلى أين ستقود هذه التصريحات؟
كشف المستور
أمس الأول صوّب الحزب الشيوعي نيران مدفعيته على برنامج قوى الحرية والتغيير (قحت) الاقتصادي، ووجه انتقادات حادة لإدارتها للاقتصاد والمتمثلة في وزير المالية البدوي، وأكد أن تنفيذه سيحول البلاد إلى (قحط)، ووصفه بالرجعي، وأشار إلى أنه لن يخدم البلاد، وأكد أنه تسبب في زيادة أسعار الدولار.
ووصف القيادي بالحزب صديق كبلو أن اعتماد استيراد القمح بدلاً من زراعته بأنه حديث غير مسؤول، وقال: من لا يملك غذاء شعبه ليس حراً، داعياً إلى ضرورة إعادة النظر في المصروفات الحكومية، ووقف الصرف من موارد البلاد على مؤسسات تتبع للنظام السابق.
الحزب الشيوعي لم يكن أول من فتح النيران على البدوي، إذ سبق وانتقد حزب المؤتمر السوداني تصريحات وزير المالية الأخيرة التي كشف فيها عن حاجة الاقتصاد لخمسة مليارات دولار، لدعم الميزانية ولتفادي الانهيار، واقترح أن تستعين الحكومة بخبراء لبحث كيفية معالجة الوضع الحالي.
وقال إن حديث الوزير وما تبعه من توضيحات “لا يبعث على الاطمئنان”، كما أنه يكشف عن انعدام خطة إسعافية واضحة لمواجهة متطلبات كبح جماح الأسعار والندرة في الوقود والقمح وانهيار أسعار الجنيه مقابل العملات الأجنبية.
وقال البدوي إن البلاد تملك من احتياطي النقد الأجنبي ما يكفيها لعدة أسابيع فقط لتمويل الواردات، ووجدت تصريحاته هذه النقد من جانب خبراء اقتصاديين، مما دعا وزير المالية إلى نفيها لاحقاً أن يكون الاقتصاد السوداني معرضاً للانهيار، إذا لم يحصل السودان على مبلغ يتراوح بين ثلاثة وأربعة مليارات دولار أمريكي، وقد يصل إلى (خمسة مليارات)، لتمويل الميزانية الجديدة للعام المالي 2020م.
وقال البدوي في بيان صحفي إن ما نقلته (رويترز) بشأن الاقتصاد السوداني غير دقيق، وأنه لم يصرح إطلاقاً بأن الاقتصاد سينهار، وإنما ذكر أن الاقتصاد يحتاج لموارد كبيرة تتراوح ما بين خمسة إلى ستة مليارات دولار لتنفيذ برامج الإصلاح الاقتصادي الشامل متعدد المسارات. والسؤال الذي يطرح نفسه: من أين يأتي السودان بهذا المبلغ؟ وكيف يمكن أن يوجد مورد في المدى القريب يوفر هذا المبلغ؟ بالرغم من الدعومات الخارجية التي يصرح عنها المسؤولون في الدولة، إلا أن المواطن لا يراها على أرض الواقع.
خارج الشبكة
بالمقابل انتقد خبراء تصريحات الوزير واعتبروها (تصويباً خارج الشبكة)، وحديثاً صادماً وغيرموفق تزيد الـزمة الاقتصادية في البلاد على تعقيدها، حتى أإنها قد تكون السبب الرئيسي الذي أدى إلى هبوط قيمة الجنيه مجددًا، والتي سجلت أرقاماً تاريخية، وتفسر كالصراخ لطلب الاستغاثة والدعم من دول العالم.
وطالبوا البدوي بعرض الحلول الاقتصادية بدلاً من الاكتفاء بالتصريحات السلبية الناقدة للوضع الاقتصادي كما لو كان البدوي ناشطاً سياسياً معارضاً ضد الحكومة وقال الخبير الاقتصادي د. عبد الله الرمادي لـ(الصيحة): في حال كانت تصريحات البدوي صحيحة، فذلك يعني أنه إعلان غير موفق ويضر بالاقتصاد، وتنم عن فشل مبكر في إدارة الإمكانات والموارد، وليس ضعفاً في موارد الدولة، ولربما تنقصة المعلومات الحقيقية عن إمكانيات السودان، وأشار الرمادي إلى أن مثل هذه التصريحات ستؤدي هروب المستثمرين الأجانب، وأردف: لا يعقل أن يطرق مستثمر أبواب السودان ووزير ماليته يعلن عن انهيار، وأضاف: ستؤدي أيضاً إلى الهلع وسط المنتجين المحليين وحتى المواطن البسيط من مواجهة شبح الانهيار.
استدرار عطف
ويرى د. الرمادي أن أعلان بدوي ربما جاء بهدف استدرار عطف المانحين من الدول الأجنبية، وكان الدكتور البدوي في أول ظهور له بعد أداء القسم كشف عن أن برنامجه الاقتصادي سيكون برنامجاً إسعافياً في أول 200 يوم، لإعادة هيكلة الموازنة وإجراءات تثبيت الأسعار، وحديثه يومها فُسر بحديث العالم ببواطن الأمور ومنعطفاتها، إلا أنه لم تكد تمر ستون يوماً حتى تبين عدم استناده على برنامج إسعافي جاهز كما سبق وأعلن، وأن يعمل كالوزراء بالعهد البائد برزق اليوم باليوم، ويرى في ذلك الرمادي أن إشكالية غياب الوزير عن السودان لسنوات ربما جعلته خارج الصورة، ويحتاج أن يتسلح بالمعلومات، ويتضح ذلك جلياً في إيقاف منتجي الذهب عن العمل بحجة وجود مادة السيانيد، وكان حرياً بالمسئولين إيجاد البدائل ليستمر الإنتاج خاصة وأن مورد الذهب الآن من أكبر القطاعات التي تدر دخلاً من العملة الأجنبية للدولة.
ازدواجية الولاء
أثار خبير إستراتيجي ولواء بالأمن القومي ـ فضل حجب اسمه (للصيحة) ـ نقطه مهمة بقوله إن أغلب وزراء الحكومة الانتقالية قادمون من مؤسسات خارجية أعلنوا ولاءهم لها مسبقاً،وما زال يشكك في أمر ولائهم وارتباطهم بها كوزير الصحة، الذي لم يجد حرجاً من الكشف عن الحمى القلاعية، ووزير المالية الذي ينتمي لصندوق النقد الدولي، ويعتبر أن تصريحاته تمثل شفافية ولا تؤخذ على الدولة، وبالتالي ظهروا كالناشطين السياسيين أكثر منهم مسئولين حكوميين، وربما نلاحظ وجود حلقة مفقودة بين رئيس الوزراء وحكومته ولا توجد مرجعية بينهم .
بدوره عبّر الخبير الأمني عن استغرابه من هذه التصريحات، وقال: لا توجد حكومة على وجه الأرض تعلن مكرهة أو طائعة عن قرب انهيار اقتصادها، وأردف: لأن مثل هذه التصريحات تؤدي لانخفاض الروح المعنوية على المواطن المحلي، والمستثمر الأجنبي وتعرض الأمن القومي للاهتزاز، وبالتالي هشاشة الدولة وإضعافها، وسينعكس على أسعار الدولار بزيادة الأسعار والطلب لحفظ الأصول من الأموال كما حدث سابقاً عندما حدثت أزمة الكاش.