العفو عند المقدرة
*العفو من أعظم الصفات التي يتحلّى بها المسلم، وقد وصف الله نفسه بالعفو وأمر عباده أن يتصفوا به، قال تعالى: (خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ).
وفي قصة سيدنا يوسف كان يعقوب – عليه السلام – يحب ابنه يوسف – عليه السلام – أكثر من إخوته، فحسده إخوته على هذا الحب، فقرروا أن يتخلصوا من يوسف، فاستأذنوا أباهم في أن يأخذوا يوسف معهم إلى المرعى ليلعب ويمرح، فوافق، وأوصاهم به، فأخذوه معهم، وهناك ألقوه في بئر .
ثم رجعوا إلى أبيهم في المساء يبكون، وأخبروه أن الذئب قد أكله، فحزن الأب على فراق يوسف حزناً شديداً، ومرّت قافلة، فوجدوا يوسف، فأخرجوه وأخذوه معهم، وباعوه لعزيز مصر .
وتربى يوسف في قصر العزيز، ونتيجة لأخلاقه الحسنة، وعلمه الواسع، صار وزيراً لملك مصر، وفي أثناء ذلك، جاء إليه إخوته ليشتروا من مصر لأهلهم بعض الغذاء، فلما دخلوا عليه عرفهم، ولكنهم لم يعرفوه، وترددوا عليه أكثر من مرة، وكانت فرصة ليوسف لينتقم من إخوته، لكنه عفا عنهم، وقال لهم :
(قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) يوسف: 92 .
إن مرتبة العفو لا يصل إليها إلا من جرّد نفسه لله، وجاهَد نفسه، وكظم غيظه.
* لما انتهت غزوة بدر ووقف الرسول – صلى الله عليه وسلم – والصحابة يستعرضون أسرى المشركين إذا هم يجدون سهيل بن عمرو أسيرًا في أيديهم، فلما مثل سهيل بين يدي النبي – صلى الله عليه وسلم – نظر إليه عمر بن الخطاب وقال :
دعني يا رسول الله أنزع ثنيتيه حتى لا يقوم بعد اليوم خطيباً في محافل مكة، ينال من الإسلام ونبيه، فقال الرسول – صلى الله عليه وسلم: “دعهما يا عمر، فلعلك ترى منهما ما يسرك إن شاء الله ” .
ثم دارت الأيام، وكان صلح الحديبية، فبعثت قريش سهيل بن عمرو لينوب عنها في إبرام الصلح، فتلقاه الرسول – صلى الله عليه وسلم – ومعه طائفة من صحبه فيهم ابنه عبد الله بن سهيل، ثم دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – علي بن أبي طالب لكتابة العقد، وشرع يملي عليه فقال :
(اكتب: بسم الله الرحمن الرحيم)، فقال سهيل : نحن لا نعرف هذا، ولكن اكتب: باسمك اللهم، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم – لعلي : (اكتب باسمك اللهم)، ثم قال : (اكتب: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله).
فقال سهيل : لو نعلم أنك رسول الله لم نقاتلك، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك، فقال النبي – صلى الله عليه وسلم: (والله إني لرسول الله وإن كذبتموني، اكتب محمد بن عبد الله) ثم أتم العقد .
وعاد سهيل بن عمرو مزهوّاً بما كان يظن أنه حقّقه من نصرٍ لقومه على محمد .
*ثم دارت الأيام دورتها كرة أخرى، وإذا بقريش تُهزَم ويدخل النبي مكة فاتحاً، وإذا المنادي ينادي: يا أهل مكة، من دخل بيته فهو آمن، ومن دخل المسجد الحرام فهو آمن، ومن دخل بيت أبي سفيان فهو آمن .
فما إن سمع سهيل النداء حتى دب في قلبه الذعر، وأغلق على نفسه باب بيته، وسقط في يده، يقول سهيل: أرسلت في طلب ابني عبد الله، وأنا أستحي أن تقع عيني على عينه، لما كنت قد أسرفت في تعذيبه على الإسلام، فلما دخل عليّ قلت له :
اطلب لي جواراً من محمد، فإني لا آمن أن أقتل، فذهب عبد الله إلى النبي – صلى الله عليه وسلم – وقال : أبي، أتؤمنه يا رسول الله جعلت فداك؟
قال: (نعم هو آمن بأمان الله، فليظهر)، ثم التفت إلى أصحابه وقال: (من لقي منكم سهيلاً فلا يسئ لقاءه، فلعمري إن سهيلا له عقل وشرف وما مثل سهيل يجهل الإسلام، ولكن قدر فكان).
أسلم سهيل بن عمرو بعد ذلك إسلاماً ملك عليه قلبه ولبه، وأحب الرسول من فؤاده .
قال الصديق: لقد نظرت إلى سهيل بن عمرو في حجة الوداع قائماً بين يدي رسول الله، وهو يقدم له البدن، ورسول الله ينحرها بيده الكريمة، ثم دعا النبي – صلى الله عليه وسلم – الحلاق فحلق رأسه، فنظرت إلى سهيل، وهو يلتقط الشعرة من شعر النبي ويضعها على عينيه فذكرت يوم الحديبية، وكيف أبى أن يكتب محمد رسول الله فحمدت الله أن هداه .
ياسر عبد الرحمن