ليست هناك إهانة لمنصب النائب العام وتسويته بالتراب، أكثر من بيان الحرية والتغيير وتصريحها حول أوامر القبض الصادرة في حق مَن يُسمّون ويشتَبه فيهم أنهم مدبرو انقلاب الإنقاذ ١٩٨٩م، فالتدخل السافر والمقيت في عمل النائب العام وإعلان جهة سياسية عن توجيهات النيابة قبل أن تُعلنها النيابة نفسها، يضع النائب العام في موقف شديد التعقيد كونه سمح وترك الإعلان عن الخطوات التي اتخذها لجهة سياسية وغض الطرف وأجرى تنسيقاً مع جهات حزبية غير معنية، ولا مخول لها للقيام بواجب النيابة، وذلك بالطبع هو تسييس لعمل النيابة العامة وتوظيف مهامها لصالح الأجندة الحزبية، فإذا كانت هناك جهات سياسية تجلس إلى النائب العام، وتتحدث باسمه وتتولى ربطه هاتفياً مع بعض الأفراد كما كتب عمار محمد آدم عن مكالمته الهاتفية مع السيد النائب العام، فإن ذلك يعني شيئاً واحداً هو التدخل في مهام النائب العام والتفريط في أهم واجباته بترك الحبل على الغارب ليعبث منسوبو الحرية والتغيير كما يشاءون، وكان على السيد النائب العام أن يتوخى أعلى درجات الالتزام بقواطع مهنته والحرص على أن لا تكون محل طعن وريبة، خاصة ما يتعلق بالحياد والنزاهة المهنية والابتعاد عن شبهة التسييس .. فلا يليق أبداً بالنيابة العامة أن يُمرّغ وجهُها في تراب السياسة ورماد الناشطين السياسيين، فهي في طبيعتها ومكانتها تمثل عملاً منضبطاً لا يقبل القسمة على اثنين، تقع عليها مسؤولية جسيمة كجهازٍ عدليٍّ شديد الحساسية كالمرآة تتأثر بأنفاس السياسة وزفيرها، وتتلطّخ بروث الحزبية إن وقعت في حلبة الصراع السياسي، يجب في هذا العمل الحسّاس الالتزام بالقانون والحياد التام إحقاقاً للحق ومن أجل الصالح العام ونزاهة التحري والتحقيق والخلوص إلى الحقيقة دون تحيّز أو موالاة ..
الشيء المهم أن الانشغال بقضايا مثل تدبير الانقلابات، لا طائل من تحته، فهذه مسائل شائكة تُستَخدم عند إطلاق تُهم من أجل الكيد السياسي والنيل من الخصوم، وليس من ورائها ما يعود بالفائدة على مسار الحكم وإصلاحه في أغلب الأحوال، ولا ينظر إلى محاكمات مُدبّري الانقلابات أنها ستصبح بعد الفصل فيها محطة أخيرة في مضمار الصراعات السياسية والتناحر حول السلطة، أو تكون عاصماً من حدوثها وتكرارها، فالانقلابات أمر شائع تحدُث في كل العالم، وأينما وقعت توجد لها مسوغات وتبريرات ظرفية في سبيل الوصول للاستقرار السياسي، ورغم أن العالم في راهنه يستنكرها، وتجتهد المنظمات الدولية في استهجانها لكنها سرعان ما تتخلى عن مواقفها وتقبل بها واقعاً سياسياً وتعترف بالسلطات الانقلابية وكأن شيئاً لم يكن ..
هناك جدليات حول مفهوم الانقلابات العسكرية في مناطق مختلفة من العالم، مؤدّى الكثير منها أنه لا يمكن التعامُل معها بشكل قاطع عبر القانون، فأياً كانت الوسيلة للوصول للسلطة يتمحور الخلاف، وهناك اتجاهات ترى أن أي نمط للحكم ليست العبرة في كيف جاء وبأي وسيلة دانت له الشوكة، إنما العبرة بمستوى الأداء السياسي ورُشد الحُكم ومقاربته ما يرتكب من جرائر وجرائم باسم السلطة، فجريمة الانقلاب لنزع الحكم تماثل النزاع المسلح من أجل السيطرة، فكم من جيوش حركات متمردة وصلت باجتياحاتها للعواصم بقوة السلاح واستولت على السلطة؟ وفرضت واقعاً جديداً سُمّيت ثورة ، مثلما زعمت جماعات متمردة كثيرة بدول العالم الثالث، وخاصة في أفريقيا وانتصرت واستلمت السلطة، مثلها كانت الثورة البلشفية والثورة الصينية وما فعله ثوار كُثر في أمريكا اللاتينية وبلدان أوروبية غرقت في الدماء قبل أن تخرج إلى ضفاف آمنة مع التطور السياسي والاجتماعي .
تفتَح البلاغات التي وجّه النائب العام بفتحها ضد مُدبّري انقلاب الإنفاذ الأبواب كلها، لتجريم الانقلابات التي حدثت في تاريخ السودان منذ الاستقلال، وسيتحوّل الجدل إلى سياسي من الدرجة الأولى، الجميع فيه سواء، من الطائفية السياسية التي استنّت السنة إلى اليسار وخاصة الشيوعيين إلى مُدبّري انقلاب الإنقاذ، ولا يُستثنى من ذلك العروبيون من بعثيين أو ناصريين أو أشباه اليسار، فكل هؤلاء اكتسبت أفكارهم وجودها وتشرعنت الأنظمة التي ألهمتهم من شرعية الانقلابات العسكرية في مصر وسوريا والعراق وليبيا واليمن واليمن الجنوبي .
إذا كان النائب العام هو من تقدّم مع مجموعة من المحامين قبل تعيينه نائباً عاماً بطلب فتح البلاغات ضد مُدبري انقلاب ١٩٨٩م كشاكٍ، عليه أن يُبعِد شبهة تحيّزه فوراً لأنه لن يكون مُؤتَمناً على سير التحري والتحقيقات وليس نزيهاً بما يكفي للوثوق في تعامُله مع مراحل التحري والاستئنافات التي ستُرفَع إليه، خاصة بعد أن صدر عن الحرية والتغيير بيانها الخاص بالقضية تدخلها السياسي المباشر في اختصاصات النائب العام وما قاله عمار محمد آدم يقدح تماماً في حياده ونزاهته في هذه القضية لأنه صار الخصم والحكم..
لن تكون مسارات هذه الدعوى في شأن مدبري انقلاب ١٩٨٩م، مثل سابقتها قضية مدبري انقلاب مايو، فالسابقة انتهت إلى ما انتهت إليه، ولم تتم محاكمة أي جهة سياسية مع العسكريين، لكن هذه اللاحقة ستكون مُعقّدة للغاية من الناحية القانونية والسياسية وباهظة التكاليف والأثمان، ولربما ردود الفعل المتوقعة خاصة بعد اتضاح التسييس والتدخّل الحزبي من ورائها ..