ما معنى (الأصالة) في الفكر الجمهوري؟!
لقد نفذ حد الردة في محمود محمد طه قبل أكثر من ثلث قرن حيث كان في 18 يناير 1985م، وقبل قتله وبعده حتى يومنا هذا وباحثون وكتّاب يكتبون بين حين وآخر عن هذا الفكر (المنقرض)، بل قد طبعت كتب تضمّنت تفاصيل هذا الفكر ومعتقد صاحبه، وقد نشرت في هذا العمود (الحق الواضح) أكثر من عشرة مقالات وكررت النشر حيث وجدت الحاجة تدعو إلى ذلك، ونقلت من كتب محمود محمد طه ووضّحت ببيان جلي حقيقة هذا الفكر وما دعا إليه صاحبه، ومع هذه الجهود وغيرها إلا أنه بقي صوت (نشاز) يخرج أحياناً هنا وهناك، يمجّد هذا الفكر أو يثني على صاحبه، والمصيبة أن بعض من يكتبون لم يكلفوا أنفسهم عناء قراءة مقال أو مقالين في ربع ساعة ليقفوا على حقيقة دعوة محمود محمد طه، لهذا النوع من الكتّاب أهدي هذا المقال الموجز الذي جله هو كلام لمحمود محمد طه نفسه وهو يشرح ركناً أساسياً في فكرته وهو (الأصالة)، فليقبلوا مني هذه الهدية، وليفتحوا آفاقهم للبحث فإن البحث سمة الكاتب الحريص على سلامة قلبه وإفادة قرائه، إضافة إلى أن الكلمة مسؤولية عظيمة، والسؤال قادم عند الله عن ما خطّ البنان، والله المستعان.
وللإجابة المجملة على السؤال الذي صدّرت به المقال أقول إن الأصالة في الفكر الجمهوري تعني بالنظر إلى نتيجتها ومآلها: (الاستمتاع) بالتحرر من العبادات التي أوحى بها الله تعالى للنبي محمد عليه الصلاة والسلام ليتقرب بها عباد الله بها إليه!!
وأما الإجابة المفصلة، أنقلها لكم من هذا النقل من كتاب: (رسالة الصلاة):
قال حلّاج عصره محمود محمد طه:
(إذا فهمنا هذا، يتضح لنا أن المعصوم، حين قال: (صلوا كما رأيتموني أصلي) كأنما قال بلسان العبارة (قلدوني في صلاتي بإتقان، وبتجويد، حتى يفضي بكم تقليدي إلى أن تكونوا أصلاء مثلي)، أو كأنه قال: (قلدوني بإتقان، وبتجويد وبوعي تام، حتى تبلغوا أن تقلدوني في أصالتي).. غير أنه ليس في الأصالة تقليد.. ولكن فيها تأس (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة) (أسوة) قدوة في كمال حاله فالنبي آتانا بلسان الشريعة – لسان المقال- أمراً بالتقليد، وآتانا بلسان الحقيقة – لسان الحال- أمرًا بالأصالة.. ولا تكون الأصالة إلا بعد تجويد التقليد.. فالأصالة غاية من تقليدنا النبي، وليس التقليد غاية في ذاته.
والمعراج الأكبر، الذي ارتفع في مراقيه المعصوم، بتوفيق الله، ثم بإعانة جبريل له، قد ظل تحقيقه هدف المعصوم في جميع حياته، بوسيلة معراجه الأصغر – الصلاة – وقد جعل الله له قرة عينه في الصلاة، لأن فيها تتحقق الجمعية بربه كل حين، وبها تقطع، عند كل ركعة، مرحلة جديدة، من مراحل القرب إلى المقام المحمود.. مقام (ما زاغ البصر وما طغى). وهذا المقام يجب أن يظل هدف كل مصل من هذه الأمة لأن به تمام المعرفة، وكمال الشهود، وهو الشهود الذاتي، الذي يرقى فوق الشهود الأسمائي، كما أسلفنا القول، ولأنه مقام تحقيق الفردية، ولأنه مقام الاستمتاع بالحرية الفردية المطلقة، التي ورد ذكرها كثيراً في هذه الرسالة).
وقال:
(ثم إنه، بفضل هذا الاتباع، انعكست الأنوار المحمدية على المقلدين، كل على حسب بلائه، فأصبح نظره يقوى حتى استطاع أن يرى مواقع أقدام جبريل، التي كانت خفية عنه في أول أمره، ثم سار في إتقان تقليده ، حتى رأى مواقع أقدام الله التي كانت خافية على محمد، فأخذ يوضحها له جبريل بسيره عليها، وسار محمد بسير جبريل، حتى قوي ، فاستقل بالرؤية والاتباع. فإذا رأى المقلد، المجود لتقليد النبي، مواضع الأقدام الإلهية فإنه يستقل بالرؤية وبالاتباع. فيكون في آخر أمره، وبفضل إتقان تقليد النبي، مقلداً لله بلا واسطة النبي).
وقال:
(وقال تعالى مخاطبا المؤمنيـن (إن الصلاة كانت على المؤمنيـن كتابا موقـوتا) ومعنى (موقـوتـا) هنـا، أنها، على المؤمنيـن فـرض لـه أوقات يـؤدى فيـها، فإذا ارتفعـوا بهـا، وبالعبادات، والأعمال جميعا، وبالقرآن، عن مرتبة الإيمان، إلى مرتبة الإحسان، حيث يرون الله، تبارك وتعالى، فقد أصبحوا أكثر من مؤمنين – أصبحوا مسلمين – وأصبح عليهم أن يقلـدوا الله، لا أن يقلـدوا محمداً، كما قال المعصوم (تخلقوا بأخلاق الله، إن ربي على سراط مستقيم)، وأصبح معنى (كتابا موقوتا) في هذه الحالة، أنها فرض له وقت ينتهي فيه. ويجب أن يلاحظ أن انتهاءها لا يكون تشريعاً عاماً، لأن تلك مرتبة فردية، لا مرتبة عمـوم. ولرُبَّ قائـل يقـول، ولماذا لم تنتـه الصلاة بمحمد ؟؟ والجـواب هـو أن محمداً ليـس مقلـداً وإنما هـو أصيل، وكل من عداه مقلد له. وهـو في أصالته يستطيع أن يحقـق فرديته بأسلوب الصلاة، كما يطلب من كل منا أن يحقق فرديته بطريق خاص ينفتح له لسياسة حياته، وفق الحق والصدق. ولقـد أشار القرآن إلى تحقيق النبي الكريم لفـرديته بقوله تعالى (ومن الليل فتهجد بـه نافلة لك، عسى أن يبعثك ربك مقاماً محمودا)، وهذا المقام المحمود هـو الذي قامه يوم عرج به، وانتهى إلى سدرة المنتهى، حيث قال الله فيه (ما زاغ البصر وما طغى) . (ما زاغ البصر) أي ما ارتد الخاطر إلى الماضي، (وما طغى) أي ما امتد إلى المستقبل، ينشغل بـه، وإنما استغرقته اللحظة الحاضرة، بالشهود، والرؤية فكأنه كان وحدة ذاتية، في وحدة مكانية، في وحدة زمانية. ولقد فرضت عليه الصلاة في ذلك المقام، ولما عاد إلى طبيعته البشرية أصبحت الصلاة معراجاً يومياً له ولأمته، إلى ذلك المقام الرفيع الذي قامه بين يدي الله تبارك وتعالى، ولما كان هذا المقام هو مقام تحقيق الفردية، أو قل مقام وحدة الذات البشرية، وهذا المقام مطلوب من كل مسلم أن يسعى إليه، فقد أصبحت الأصالة والتحرر من التقليد، في أخريات السير إليه ، أمراً لا مناص منه ..). انتهى
قلتُ:
وهل بقي لكاتب يثني على محمود محمد طه عذر وخلاصة فكره أن يتخلى المسلم عن التشريعات، ويستقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالتعبد لله وهذا هو معنى الأصالة التي طبقها محمود محمد طه الذي لم يكن يصلي صلاتنا هذه بشهادة ابنته وبعض أتباعه الموثقة عنه.