الغلاء والمواصلات
بعض التظاهرات التي شهدتها العاصمة الخرطوم نهاية الأسبوع الماضي كانت تعبيرًا عن ضيق وتبرّم المواطنين من شح وسائل النقل والغلاء الفاحش الذي جعل الحياة في السودان شبه مستحيلة لأصحاب الأجور والمرتبات الضعيفة، وإغلق طلاب المدارس الثانوية والأساس شارع الشنقيطي والثورة بالنص بسبب انعدام وسائل النقل ووقوف المواطنين ساعات طويلة يبحلقون في العربات الخاصة التي تثير حنقهم وهي ترفض الاستجابة لحملة (وصلني معاك) التي أفسدتها السياسية حينما حاولت لجان المقاومة تجييرها لصالحها.
أزمة المواصلات العامة حاولت الحكومة تغبيش وعي الناس وخداع نفسها بادعاء فج بأن الدولة العميقة والكيزان هم السبب في اصطناع الأزمة، وذهبت الحكومة وأبواقها الإعلامية إلى القول باأن جهات توزع أموالاً لأصحاب الحافلات للانصراف من المواقف وخلق أزمة غير مبررة، وتلك فرية وكذبة غبية لم يصدقها الشعب الذي وهبه الواهب فطنة وذكاء للتفريق بين الدعاية والادعاء ومشكلة المواصلات من صنع الحكومة نفسها بسوء شوارع الخرطوم وكثرة الحفر والمطبات التي تجعل أي عاقل يتجنب السير فيها.
ثانياً شرطة المرور التي تنشط منذ الصباح في حملات لجمع الأتاوات وتصيد الحافلات الصغيرة بحجة واهية لجمع المال وفرض الغرامات، وحجة شرطة المرور أن الحافلات التي تعرف بالشريحة والهايس غير مصدق لها بنقل المواطنين يرغمونها علي دفع نصف حصيلة اليوم كغرامة، ويسمح لها بعد ذلك بالعمل، فلماذا التضييق على قطاع مهم من أسطول النقل الداخلي؟
وهل تعرفة المواصلات الحالية مغرية للقطاع الخاص للعمل في قطاع المواصلات في وقت تضاعفت فيه أسعار الإسبيرات والسيارات نفسها.
أما مشكلة الغلاء الفاحش فإنها مرتبطة بقلة الإنتاج وتدهور صادرات البلاد من الإنتاج الزراعي والحيواني والارتفاع المضطرد في سعر الدولار.
والمصيبة أن وزير المالية إبراهيم البدوي الذي قيل لنا الرجل كفاءة نادرة وخبير عالمي وعالم اقتصادي، بدأ الناس يعقدون المقارنات بينه وأكثر وزراء النظام السابق بؤساً في الأداء الجنرال الركابي الذي غطّس حجر البشير وحكومته، والآن الخبير الاقتصادي العالمي يقول إن الارتفاع المفاجيء في أسعار الدولار السبب فيه الثورة المضادة التي نشطت في شراء الدولار لشيء في نفسها، ووزير المالية يعلم وحمدان الغسال في بحري يعلم ونصر الدين العجلاتي في سوق الكلاكلة اللفة يعلم أن شركات الاتصالات هي من يشتري الدولار هذه الأيام بأي سعر لتغطية احتياجاتها وتحويل عائداتها الكبيرة من العملة المحلية للدولار مما أدى للتنافس الكبير في الحصول على القليل جداً من المعروض في السوق من الدولار.
والحكومة نفسها تشتري الدولار وهي تجوب الدنيا أسفاراً بلا مردود ولا يمضي يوم إلا وطار أحد المسؤولين لدولة خارجية، البرهان في يوغندا، وحاجة أسماء في أمريكا وحمدوك في بلجيكا، ووفود أخرى في فينا وطوكيو والإمارات، كل تلك الوفود تسافر بالدولار وتعود بالوعود حتى أدرك العالم أن الحكومة الانتقالية لا تستحق الحصول على الدعم الذي وعد به بعض القادة.
نعم، الوقت مبكر للحكم النهائي على أداء الحكومة، ومن الظلم مقارنة وزراء بلا خبرة وبلا تجربة بغيرهم من الوزراء والحكومات التي تعاقبت على حكم البلاد، ولكن عندما تقرأ تصريحات وزير المالية وادعاءات محمد عصمت، وحماس وزير العدل للتوقيع على سيدوا وحرص وزير الإرشاد على البحث عن حقوق عبدة الأوثان والحجارة ورفض حمدوك افتتاح مسجد مدينة الفاشر، وتجاهل مجلس الوزراء لحدث كبير مثل إطلاق السودان قمراً صناعياً لأغراض الاستكشافات العلمية وزيادة فاعلية المنظومة الدفاعية للدولة والتعامل مع كل ذلك بروح التنافس الطلابي وبغضاء الناشطين السياسيين والانصراف عن قضايا معيشة الناس لتوافه الأمور ومحاولة تفجير الصراعات المذهبية والسعي لتغيير ثقافة الشعب وضرب تقاليده ووسطيته والانشغال بوهم بوكو حرام، فإن الحكومة هي التي تحكم على نفسها بالفشل وتعجل بانفضاض الناس من حولها.
ولا عجب إذا ما رفع الرشيد سعيد سياط الجلادين في وجه الصحافة تحت شعار لا صوت يعلو فوق صوت الثورة الظافرة، لكن أصوات الجوعى والمكتوين بنار السوق ستعلو مهما تحصنت حكومة حمدوك بالخارج وتغطت بثياب قحت المهترئة في شتاء بارد أخذ يهب على الخرطوم.
وقد تفتقت عبقرية وزير مجلس الوزراء عمر مانيس لحل أزمة المواصلات بتوجيه العربات الحكومية بنقل المواطنين للتخفيف عنهم ومن قبل أعلنت قوات الدعم السريع عن نقل مجاني للمواطنين، ولكنها تعرضت للهجوم من قبل قحت واتهمت حميدتي بالسعي للتمدد شعبياً كأن الشعب هذا ملك لـ”قحت” ومن شايعها من قوى اليسار وتابعيها من حزب الأمة وبقية المنشقين من الاتحادي الديمقراطي الكبير.
وعمر مانيس يمكنه الاستفادة من تجربة للإنقاذ قبل ٣٠ عاماً في عهد الطيب إبراهيم محمد خير عندما وجه بنقل المواطنين بعربات الحكومة بسعر رمزي لشراء الوقود ولكن التجربة فشلت حينها، وهذا لا يعني عدم نجاحها الآن إذا صدقت النوايا.