أمـــــانة الـــــدِّين
إن كل فريضة أُمرنا بها هي أمانة، وكل ما أوجب الله علينا ورسولُه البعد عنه وعدم الوقوع فيه هو أمانة، فإن الموفق ومن يسعد في الدنيا والآخرة هو من يقوم بأداء هذه الأمانات، فعبادة الله وطاعته وعدم الإشراك به أمانة، والصلاة أمانة، والصوم أمانة، والزكاة أمانة، والحج أمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أمانة، والمحافظة على شعائر الإسلام ومقدساته أمانة، وهيبته في القلوب أمانة، وأداء الحقوق إلى أهلها أمانة، وصلة الأرحام أمانة، والوضوء والغسل أمانة، وحفظ الأسرار أمانة، والسمع أمانة، واللسان أمانة، والأذن أمانة، (ولا تقف ما ليس لك به علم إن السمع والبصر والفؤاد كل أولئك كان عنه مسئولاً).
سنُسْألُ عن هذه الأمانات!! وإن ذلك ـ والله ـ لقريب وليس ببعيد !! قال الله تعالى: (إنهم يرونه بعيداً(6) ونراه قريباً(7)). وقال الله تعالى: (وقفوهم إنهم مسئولون).
ولو أنا إذا متنا تُركنا لكان الموت راحة كل حي
ولكنا إذا متنا بعثنـــا ونُسْألُ بعدها عن كل شيءِ
إن واقع كثير من الناس مع (أمانة الدين) واقع مؤسف: إعراض ظاهر عن معرفة الحق، وزهد بيِّن في تعلم أحكام الشرع، تفريط في الاستقامة على أمور الدين، هجر لكتاب رب العالمين، وبُعد عن منهج خاتم المرسلين، ومجاهرة بالسفه والفسق واتباع الهوى والسير خلف الشياطين!! دعاء للأموات!! وتعلق بالعظام الرفاة، واستغاثة بهم لكشف الضر وتفريج الكربات!! وذلك أعظم الظلم وأكبر المنكرات وتضييع الأمانات!! غلو في المخلوقين!! وشرك مبين!! وفي جانب آخر نساء متبرجات سافرات تملأ الطرقات، وأخريات يغنين ويتمايلن على الشاشات، رقص ومنكرات!! وبعض ذلك زعموا أنه مما يُمدح به ويعظم نبي الهدى والرحمات!! وإنا لله وإنا إليه راجعون.
والأمر يزداد، ويزداد، خاصة مع غياب واضح لشعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا من رحم الله من جهد بعض الغيورين ممن هم أهل رحمة وإشفاق، وحرص وإرفاق، مستعينين بالله وحده الرحيم الكريم القوي الرزاق.
لقد حذر الله تعالى عباده من خيانة الأمانة، فقال الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ(27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ)..(28).
وقال ابن عباس: “لا تخونوا الله بترك فرائضه والرسول بترك سنته وتخونوا أمانتكم”. وقال السدي: “إذا خانوا الله والرسول فقد خانوا أماناتهم”.
يقول السعدي في تفسير هذه الآية: “يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يؤدوا ما ائتمنهم اللّه عليه من أوامره ونواهيه، فإن الأمانة قد عرضها اللّه على السماوات والأرض والجبال، فأبين أن يحملنها وأشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولاً فمن أدى الأمانة استحق من اللّه الثواب الجزيل، ومن لم يؤدها بل خانها استحق العقاب الوبيل، وصار خائناً للّه وللرسول ولأمانته، منقصاً لنفسه بكونه اتصفت نفسه بأخس الصفات، وأقبح الشيات، وهي الخيانة مفوتاً لها أكمل الصفات وأتمها، وهي الأمانة”.
لقد تحمل الإنسان أمانة عظيمة لم تستطع السماوات والأرض والجبال رغم عظم خلقهن!! أن يجملنها، وهذا مما يبين عظيم شأن الأمانة، وفضل القيام بها، وخطورة التفريط والتقصير في أدائها.
يقول الله تعالى: (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولاً(72) ليُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا) 73 .
قال ترجمان القرآن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما في تفسير قوله تعالى:” (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبالِ) قال: الأمانة الفرائض، عرضها الله عز وجل على السماوات والأرض والجبال، إن أدوها أثابهم، وإن ضيعوها عذبهم، فكرهوا ذلك وأشفقوا من غير معصية، ولكن تعظيماً لدين الله عز وجل ألا يقوموا به!! ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها”. قال النحاس: “وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير”.
ولمزيد بيان لمعنى هاتين الآيتين الكريمتين أسوق ما ذكره العلامة السعدي في تفسيره إذ قال: “يعظم تعالى شأن الأمانة، التي ائتمن اللّه عليها المكلفين، التي هي امتثال الأوامر، واجتناب المحارم، في حال السر والخفية ، كحال العلانية، وأنه تعالى عرضها على المخلوقات العظيمة، السماوات والأرض والجبال، عرض تخيير لا تحتيم، وأنك إن قمت بها وأدَّيتِهَا على وجهها، فلك الثواب، وإن لم تقومي بها، ولم تؤدها فعليك العقاب.
( فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا) أي: خوفًا أن لا يقمن بما حُمِّلْنَ، لا عصيانًا لربهن، ولا زهدًا في ثوابه، وعرضها اللّه على الإنسان، على ذلك الشرط المذكور، فقبلها، وحملها مع ظلمه وجهله، وحمل هذا الحمل الثقيل. فانقسم الناس – بحسب قيامهم بها وعدمه- إلى ثلاثة أقسام:
منافقون، أظهروا أنهم قاموا بها ظاهرًا لا باطنًا، ومشركون، تركوها ظاهرًا وباطنًا، ومؤمنون قائمون بها ظاهرًا وباطناً.
فذكر اللّه تعالى أعمال هؤلاء الأقسام الثلاثة، وما لهم من الثواب والعقاب فقال: ( لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ).
إن المأمول الذي يجب علينا القيام به أن نؤدي هذه الأمانات، فكل فرائض الله تعالى وشعائره، وما أمرنا الله تعالى به ورسوله هو من الأمانة التي سنسأل عن أدائنا لها وقيامنا بها .
قال قتادة رحمه الله: “اعلموا أن دين الله أمانة فأدوا إلى الله عز وجل ما إئتمنكم عليه من فرائضه وحدوده، ومن كانت عليه أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها”.
ما أشد حاجة الناس إلى التذكير بأداء الأمانة وتبيين مجالاتها لهم ! وما أعظم المسؤولية التي تحملناها!! اللهم ألهمنا رشدنا ووفقنا لأداء الأمانة، وجنبنا الخيانة فإنها كما أخبرنا نبيك عليه الصلاة والسلام: (بئست البطانة).