في كلّ ما يقوله أو يُنسَب من تصريحات للسيد وزير المالية إبراهيم البدوي هذه الأيام، مُروّع ومُقلِق ومُفزِع ومُخيف للغاية، خاصة ما يتعلّق بنفاد النقد الأجنبي ببنك السودان، ولا تمتلك الحكومة من عُملات صعبة إلا القليل جداً لا يكفي للاستيراد لما يكفي البلاد من احتياجاتها لعدة أسابيع فقط، هي حاجة البلاد من الدقيق والقمح والوقود والدواء وبقية الواردات الضرورية الأخرى دعك عن قطع الغيار وصيانة بعض المرافق الحيوية كالكهرباء ومصفاة الجيلي وغيرها.
ويقول الوزير إن البلاد في حاجة فِعلية لخمسة مليارات دولار لإنقاذ ودعم الميزانية لتفادي الانهيار الاقتصادي..!
وتبدو الحكومة في حاجة ماسة لمُعجِزة حتى تتجاوَز حالة الخطر الاقتصادي المُحدِق بالبلاد، فهي لا تتوفَّر على أية حلول محلية جاهِزة من عائدات صادر أو موارد أخرى، ولا تنتظِر عوناً أو مساعدة خارجية، فدول العالم جعلت أياديها مغلولة إلى عنقها، ولفّت قوى الحرية والتغيير الحبل على عنقها وعنق البلاد، بغباء سياسيٍّ لا ضريب له أو نظير، فسدّت بيدها منافذ الأمل وبصيصه القليل المُتبقّي لنا، تعقَّدت الأمور الداخلية، وتباعدت الآمال المُعلّقة في الخارج..
السببُ سياسيٌّ في الأساس، لم تُحسِن الحكومة والسلطة القائمة تخفيف حدّة التوتر والخلاف السياسي والاحتقان الداخلي، خسرت أولاً ملف السلام منذ الخلاف الشهير بين قوى الحرية والتغيير والجبهة الثورية خلال اجتماعاتهم السابقة في أديس أبابا في يوليو الماضي، وإبعاد الحركات وأولوية الاتفاق السياسي الذي تمّ بين المجلس العسكري الانتقالي السابق والحرية والتغيير، واستبعاد الجبهة الثورية من المشاركة في السلطة، وكان يمكن لملف السلام أن يدفع بالوضع الداخلي إلى الأمام ويفتح الباب أمام العون الخارجي المتوقّف لإتمام عملية السلام ووقف الحرب، ولا تزال الحكومة والحرية والتغيير تضع العراقيل والمتاريس أمام قطار السلام وتصرّ على التعامل مع الجبهة الثورية (وهي جزء من مكوّناتها)، كأنها خارج حسابات الحُكم وقِسمة السلطة ومُعادلاتها.
خسرت الحرية والتغيير ثانياً، ولفّت الحبل حول عنقها وجِيد البلاد، بسبب مواقف مُتناقِضة ومسيئة صدرت من بعض أطرافها ضد دول المحيط العربي، خاصة دول الخليج وهي الداعم الوحيد المتوفّر حالياً، فضلاً عن كون هذه الدول بوابة مهمة من بوابات التواصل مع المجتمع الدولي، ولم تستطع الحكومة تقديم نفسها بشكل جيّد، وبحقائق موضوعية كحكومة انتقالية لها برامج مُحدّدة تتقدّم بها للأسرة الدولية والجهات المانحة من منظمات وصناديق وبيوتات مالية وبنوك، وللأسف لم يجد المجتمع الدولي في كل لقاءاته مع رئيس الوزراء والوزراء المعنيين إلا توصيفات عامة، وأحاديث ذات منحى سياسي ليست فيه أية مشروعات جادة أو بادرات تُشجّع على الدعم، وخلا أيضاً حتى من التفاهُمات المعلومة في السياسة الدولية التي تقود إلى تسوية ملفات وفتح صفحات جديدة.
لم تستطِع الحكومة خلال الفترة الوجيزة لها، أن تقدّم للداخل أو الخارج صورةً مقنعةً لها كسُلطة تستحق التقدير والمساعدة، فقد ظهرت في هيئة حكومة مضطربة، زادت من الاحتقان الداخلي وبدأت حربها السياسية الداخلية لتصفية حساباتها والخصومات السياسية، ولم تظهر كحكومة كفاءات وطنية لها برامج نهضة وتنمية وإعمار وتسعى لجمع الصف والكلمة للسودانيين دون تمييز، وهذا أفقد الحكومة أهم عامِل من عوامل الثقة، فالمجتمع الخارجي سواء أكانوا الداعمين الدوليين والإقليميين أو المستثمرين الأجانب، لا يقدمون بخطوة واحدة في بلد تستعر فيه الخلافات غير المضمونة العواقب ولا الاختلافات السياسية المفتوحة على كل الاحتمالات، فالحكومة للأسف وقعت في أخطاء قاتلة بتوجيه كل حملاتها الانتقامية ضد خصومها، ونسيت أن الخارج يُراقِب ويُتابِع ويتحسّس النبض السياسي وفرص الاستقرار، فإذا شعر أن المناخ والطقس العام لا يُبشّر بخير، وفيه وفعل ورد فعل واحتمالات مُحتملة، فلن يتحمّس للمساعدة، ولن يثق في حكومة تنظُر فقط إلى ما تحت رِجليها..
الاقتصاد يُعاني من مشكلة مُزدوجة، جزءٌ قليل منها مُتعلّق بالكفاءة والنجاعة الاقتصادية، والأداء الحكومي الجيّد، والجزء الأكبر من المشكلة سياسي بامتياز، فلا الحكومة عملت واجتهدت في الجزء الأول، ولا هي ستنجح كما نعتقد في الجزء الثاني وهو الأهم، وحتى لا يدلِق وزير المالية كل ما عنده على الطاولة، فليكُن هو ورئيس الوزراء أكثر شجاعة ووضوحاً في التعامل مع الأزمة التي تحتاج إلى بصيرة أكبر وأوسع وعقلٍ سياسيٍّ يعرِف كيف تُصنَع المُعجِزات..