خربشات الجمعة
( ١)
يرتدي بنطالاً أسود و”قميص تحرمني منك” ويكنش شعره على طريقة اللاعب الكولمبي الشهير فالديراما ننظر إليه كقدوة ومثال للمثقف الذي يقهر الأمن والبوليس السري، يحرص على أناقته وعطره المميز يسحر الفتيات في القرية أو المدينة التي تضم مدرستين للبنين والبنات ومدرسة متوسطة للبنين كان عثمان أو استاذ عثمان أحمد حامد معلماً يحب الطبشور، ويقرأ علينا بين الحصة والأخرى أشعار نزار قباني، ويحدثنا عن بغداد والعروبة والتحدي الذي يجابه الأمة، ومعركة العرب المصيرية مع العدو الصهيوني، ولكن عندما يسدل الظلام على قرية الحاجز أو سوق الحاجز الذي يسمى بعلي كيفك يشق صمت الليل صوت دلوكة سعيد جبريل وغناء خديجة يوسف، وأناقة حامد التوم وفراسة محمد المهيدي الشهير بجقو جاب نار ، كانت حفلات الترم ترم يختلط المعلمون والمعلمات والطلبة والطالبات، ولا تحدث الغيرة ولا يشعر المعلم بأنه يمارس رقصاً لا يليق به، ووقتها أخرجت محلات استريو سارة بالصافية شريط كاسيت للفنان الذري إبراهيم عوض نسخة شعبية جداً تغنى فيها بأغنية سلوى التي يقول في مقطعها الأول يا سلوى أنا قلبي شن سوا جاب الريد والخوة، ومع الموسيقى الصاخبة يردد الشباب ورا ورا وإبرهيم عوض بصوته الجميل يشدو
من قساك من قسى قلبك
من قساك يا ناسي حبك
ومن بعد يطلب الشباب بوب مارلي وحتى ذلك الحين لم تظهر حنان بلولو ولا قسمة ولا بقية مطربات النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي. كانت داخلية مدرسة الحاجز المتوسطة تمثل صفوة المجتمع والشباب الذي بدا عثمان أحمد حامد القدوة والمثال في أناقته ورؤيته للحياة، كان بعثياً أي من دعاة الأمة العربية الواحدة، وكان حزب البعث العربي الاشتراكي يمثل من ينتمي إليه الثقافة والحضارة ورفض المواريث القديمة والاندماج في ركب التقدم والإنسانية .
(٢)
سوق الحاجز بوتقة انصهرت فيه الأعراق والمجموعات السكانية التي لا يهتم الناس كثيراً بتفاصيل من أين جاءوا وكيف صاروا، ولكن الحاجز أسسه الشيخ القناوي النمير وهو من عرب بني حسن القادمين من المغرب العربي، ويقولون إن جدهم الحسن بن علي بن أبي طالب، والبني حسين جدهم الحسين عليه السلام، كلاهما ابني سيدنا علي. وشكل مقتل الحسين بن علي منعرجاً في التاريخ الإسلامي والطريقة البشعة التي قتل بها الحسين هو الذي صبغ حياة الشيعة بالحزن ولبس الأسود من الثياب.
دعنا من ذلك كله، ونعود لحاجز القناوي، وأهلنا بني حسين الذين يقطنون في أقصى جنوب دارفور منطقة رهيد البردي وينضون تحت لواء إمارة التعايشة، ومن أشهر قادة بني حسين السميح الصديق النور الذي تبوأ منصب وزير الصناعة، وقدمت قوات حرس الحدود الشهيد العميد إبراهيم الشريف واستشهد في مقدمة قوات الدعم السريع الشهيد السميح، ومن قادة بني حسين في الحاجز الشيخ الراحل حسن القناوي، الذي خلفه الآن ابنه صلاح حسن شيخ سوق الحاجز حالياً.
أما الأستاذ الوسيم عثمان أحمد حامد، فهو من أهلنا المسبعات أحفاد المقدوم مسلم، كانوا حكاماً لكل كردفان، لكن مملكة المسبعات اندثرت وجرت عليها أقدار التاريخ، والآن المسبعات في كردفان يقطنون قرى صغيرة متناثرة أم جقوقة في شرق الحاجز، وفي خور طقت شرق الأبيض، وفي منطقة الفولة بغرب كردفان، ومنطقة الغبشة محافظة أم روابة، ومسبعات قدموا الشهيد محمد نور سعد الذي لم يكرمه الأنصار وحزب الامة، واستكثروا عليه اسم شارع بمدينة الأبيض التي تربى فيها مثلما استكثروا على الخليفة عبدالله التعايشي اسم جامعة كان وزير المالية الأسبق علي محمد فك الله أسره يفكر في قيامها تكريماً للتعايشي، لكن الدولة المهدوية العميقة حالت دون ذلك.
وفي القرى الغربية يقطن خزام، وفي الدبيبات كنانة وفي الجنوب دارشلنقو، وللنوبة وجود كبير في الحاجز مثل أولاد عمنا عوض رجال الذي يمثل توائم الراحل التوم يحيى وبالحاجز حي للدينكا وشلكاوي وحيد يدعى ألواك، وبالمناسبة ألواك هو بيت الدينكا الرعاة وجمع الواك واكات.
وعندما هبت رياح الإضرابات في السودان بعد إضراب السكة حديد بعطبرة، وإضراب المعلمين تكفل الأستاذ عثمان أحمد حامد بتوزيع منشورات مناوئة لحكومة مايو حينذاك، وكتاب لميشيل عفلق ومجلة الدستور التي أكثر ما كان يجذبنا إليها نشر صور أصدقاء المجلة في الصفحة قبل الأخيرة وتستطيع أن تبعث بصورتك مصحوبة بتعريف بسيط الاسم، القطر، المدينة، والمهنة، ويمكنك أن تحظى بنشر صورتك في المجلة وتصبح من الناس المهمين
قررنا الإضراب عن الدراسة، وهتفنا ضد حكومة مايو من غير وعي بالبديل فقط كان أستاذ عثمان الذي مات في ريعان شبابه يحدثنا عن خيانة نميري والسادات للقضية الفلسطينية، ولو كتب لعثمان أحمد الحياة لأصبح له شأن في السودان مثله والراحل إسماعيل عبد الله مالك الذي مات هو الآخر بغتة، وترك حزب البعث في كردفان بلا مفكر ومثقف كبير، فلا عجب أن قدم الحزب الآن صديق تاور كافي بعث به من كهوف النسيان إلى مجلس السيادة بلا رؤية مستقبلية ولا استثمار فيه.
(٣)
* في ذلك الزمان، كان قطار الثلاثاء حدثاً في المدينة، وهو مثل قطر الثلاثاء الشال السيدة وخلّ حرم، لكن قطار الثلاثاء القادم من الخرطوم ينتظره الكمسنجي حسن المصري بفارغ الصبر ومعه الكمسنجي قنزب وكلاهما انتقلا للدار الآخرة حسن المصري مات بسره في بطنه بعد أن جاء من مصر بعد ضرب الإخوان المسلمين هناك، وتقتيل المفكرين بدم بارد، وقيل الكثير عن حسن المصري بأنه أخ مسلم وقيل عنه شيوعي مطرود من جمال عبد الناصر، وقيل ضابط مخابرات لكنه حسن المصري كان شخصية متفردة يحب الناس بشوشاً ومرحاً تزوج من سيدة تعود جذورها لكادقلي فأنجبت أجمل البنات وأذكى الأولاد، وعند وصول القطار من الخرطوم ينظم حسن المصري حركة السيارات التي تقل الركاب إلى أعماق جبال النوبة سلارا، كادقلي، تنديه، دلامي، هيبان، لقاوة، أم حيطان، والدنيا كانت بخيرها، الأسواق عامرة، وفي مثل هذه الأيام تقام كرنفالات المصارعة، ومن أشهر المصارعين بسوق الحاجز المصارع الشيخ الفكي علي الشهير بالمديرية، والمصارع إبراهيم الزبير الشهير بالنملة التي تنقل العيش ، والمصارع نميري ومن الدبيبات سعيد المدرسة، والغرق وموسى الخماسية، وهي نوع من المحاكم افترعها جعفر محمد علي بخيت بديلاً للمحاكم الأهلية وحافظ المجتمع التقليدي في القرى على أنماط تعايش يفتقر إليها مجتمع المدن.
كان سوق الحاجز يجمع الناس وحتى اليوم في السوق الأسبوعي من كل كردفان تأتي الأبيض بخيرها، وتأتي جبال النوبة بإنتاجها، وتأتي دارفور بثروتها الحيوانية، والناس في مرح وسرور وبهجة. ومن أبناء الحاجز الدكتور حامد البشير الذي أسس على نفقته مدرسة ثانوية للبنات، وشيد أبناء المرحوم إدريس عبد السلام مركزاً صحياً، وربما في عهد حمدوك تتهاطل الرحمة على مدارس الحاجز والدبيبات وبدلاً من النفير الذي بنى فصلين بمدرسة الدبيبات، نشهد ثورة بناء كل المدارس ويصبح حمدوك أنشودة في حناجر البنات يتغنين له مثل الغناء لحميدتي والدعم السريع الذي بات وجوده عميقاً جداً في الأرياف.
وكل جمعة والذكريات تتسلل خلسة نجترها في الأمسيات لتعيد لنا ولو مؤقتاً شيئاً من رائحة الصبا بعد تقادم السنين واشتعال الرأس شيباً.
وأصبحنا مثل مصطفى سند عندما سحرته حسناء من حسناوات هذا الزمان فأنشدها
بيني وبينك قصة السفر الطويل من الربيع إلى الخريف
بيني وبينك ما يراه الناس ثروة شاطي
وزهرة كستناء
وإلى اللقاء