الخميس المنصرم جاء الكاتب الصحفي المريخي المخضرم مامون أبو شيبة إلى مباني اتحاد الصحفيين وهو يسأل عن الذي قدمه الاتحاد للزملاء الذين رحلوا وأسرهم وعما ينوي الاتحاد فعله في مقبل الأيام تجاه هؤلاء المبدعين. سبحان الله مامون يؤثر على نفسه ويسأل عن حال غيره متناسياً حاله وهو من ذوي الاحتياج الخاص لكنه يتجاوز ذاته بكبرياء السودانيين إلى مساعدة الآخرين ليسد فجواتهم الأسرية وهو إحساس بالآخر دون استحواذ ومن يقرأ إبداعات أبوشيبة وهو يكتب عن الحركة الرياضية عموماً والمريخية خصوصاً يتخيله ملكاً بتيجانه ويعيش مترفاً لكن واقعه غير، رغم أنه من الإعلاميين المعاصرين لمعظم كبار أقطاب المريخ من لدن عبد الحميد الضو حجوج، ومحمد الياس محجوب حتى وصل مرحلة جمال الوالي وسوداكال، لكن مامون ظل مأموناً يمتطي المواصلات العامة ويعاشر غمار الناس بقناعات حقيقية ومرغوبة اجتماعياً للتأمل والاعتبار.
إن حالة أبو شيبة تعبير مجازي يمثل حال معظم المبدعين في بلادنا حيث لم يصل الوطن إلى مرحلة إدراك قيمة المبدعين وتقييمهم ومنحهم مكانتهم، وأن حديث أبوشيبة في ذلك النهار كان رامزاً ذكرني بمبدع آخر من الزهاد وهو الراحل الشاعر آبو آمنة حامد، ذلك الرجل الضامر الذي عصرته سنوات الفقر بغلظتها، وهو الذي جمل دواخل الناس بشعره وثقافته شعراً فصيحاً وعامياً.
وآبو آمنة حامد يعتبر حالة مقاربة لكل الأجيال، فهو من جيل سيف الدسوقي، وعمل في الشرطة والخارجية والتعليم والإعلام، وقد صنع كل ممكن في مجالات عمله لكنه عاش فقيراً إلا من الوفاء للذات والآخرين، رجل يحتسي القهوة والشاي مع الناس منح القبول الرباني، كان مفتاحاً لكثير من القلوب الرحيمة، وفتحاً لكثير من الضعفاء غير أنه يستحيل أن يطلب لنفسه.
وأذكر ذات مرة جاء من منزله في الشعبية بالخرطوم بحري الى الخرطوم مستسلماً لحتمية (الفلس)، ومستمتعاً بسخريته وتأملاته ومستعصماً بطقوسه الاجتماعية غير مكترث للدلالات الهرمية الثقافية والاقتصادية والاجتماعية فجلس يشرب الشاي فسأله صديقنا الصحفي / محمد الصادق عن حاله، وكيف تحمل مشقة المشوار فرد بأنه ظل يمارس هذا الموروث المتواضع والمشذب باستقلالية واحترام وفي معرض رده قد صور أبوحامد مفهوم وحال المثقفين في بلادنا بتمثيل فعال قائلاً: (يا محمد يا أخوي في الوقت الذي يستحوذ فيه كل من هب ودب على شهي طعام الفراخ ولذيذ الطعام تجد المثقفين والأدباء يتعاطون السخينة والبوش بفرح غامر وقناعة وثقة فلا تبتئس). رحمة الله عليك الأديب الشرقاوي الفصيح أبوحامد صاحب النكتة والسخرية والوعي النبيل وأنت تعيش عفيفاً وتغادر فقيراً لتترك مسيرة عظيمة، ولا أدري دلالات التوقيت، لكن ابو آمنة حامد توفي ليلة 31 ديسمبر 2006م، ودفن في ليلة شتوية باردة عند الثانية صباح الأول من يناير 2007م.
حقاً إن المثقفين في بلادنا يعيشون بكبريائهم رغم الحاجة المادية وصدق من وصفهم بأنهم ملوك عاشوا بلا قصور وبلا تيجان..!!