معروفٌ لدى الاقتصاديين المُهتمّين بوضع الاقتصاد السوداني ومشكلاته المُستعصية، أن الشهور الخمسة المقبلة، من نوفمبر الحالي حتى أبريل المقبل من الشهور الميّتة التي تَقِل فيها الإيرادات وتُقفَل الحسابات ويتقيّد الصرف، ويتم الضغط على بنود الميزانية، فكيف بالله ستتصرف الحكومة الانتقالية الحالية مع الظروف الضاغِطة في هذه الفترة، مع العلم أن تكلفة توفير الاحتياجات الضرورية للمواطنين ولتسيير عمل الدولة يصل في الشهر إلى أكثر من مائة مليون دولار، أي تحتاج الحكومة في الشهور المقبلة إلى ستمائة مليون دولار لدعم الوقود والدقيق والقمح والدواء.. هذا غير تكلفة الاستيراد.
بحساب بسيط، لا تستطيع الحكومة الانتقالية بعد التطوّرات الحادثة في البلاد، الاستدانة من النظام المصرفي لدعم الوقود والخبز والدواء والدعم الاجتماعي، فمع الفارِق في الأسعار الذي طرأ وزاد، فالحكومة لا تمتلك موارد حقيقية تستفيد منها لدعم هذه السلع الضرورية، فحتى الآن يبلغ دعم الدقيق (٢،١ تريليون جنيه) ودعم الوقود (٣،٦ تريليون جنيه)، والأدوية يصل دعمها إلى (١،٤ تريليون جنيه)، إذا أضيف لهذه المبالغ الدعم الاجتماعي سيصل المبلغ إلى ما يفوق الـ (٧ تريليونات جنيه).
إذا جُمِعت كل هذه المبالغ بحساب سعر الصرف الحالي فهو يقارب المائة مليون دولار، وهي غير متوفّرة للحكومة في الغالب من الموارد المحلية، وغير منتظرة من الأصدقاء أو الإعانات الخارجية .
دعنا من كل هذا، ما هو حجم الاحتياج الشهري للاستيراد، فالدقيق يُستورَد خلال الشهر الواحد بمبلغ يصل إلى (٥٠ مليون دولار) والوقود (١٢٥ مليون دولار)، والدواء ما بين (١٠- ١٥ مليون دولار)، هذا غير احتياجات صيانة مصفاة الجيلي خلال الشهر الواحد وقطع غيار قطاع الكهرباء وما تحتاجه وزارة الخارجية والقوات النظامية .
جملة الاحتياجات من العُملة الصعبة خلال الشهور الميّتة لاستيراد الدقيق والوقود والدواء، إضافة لحاجة المصفاة والكهرباء والخارجية والقوات النظامية خاصة الجيش تصل إلى (٢٠٠ مليون دولار شهرياً)، أي تحتاج الحكومة إلى مليار ومائتي مليون دولار (١٢٠٠٠٠٠٠٠٠) دولار خلال الستة أشهر، مع العلم أن هذه السلع بلا عائدات تُذكَر، فالدعم يبلغ (٩٠%) من كلفتها وعائداتها (10بالمائة) فقط.
من أين لحكومتنا السنيّة هذه المبالغ الضخمة لمقابلة كل هذه المشاكل، ونحن نعلم أن الدعم الخارجي ضئيلٌ جداً، وكل زيارات رئيس الوزراء، ووزير المالية باءت بالفشل وجاءا بوفاض خالٍ، ولا توجد إيرادات كافية تُغطي هذه التكلفة والمصروفات العالية، ولا نرى اجتهاداً حكومياً فعّالاً وخلَّاقاً لإنتاج حلول عبقرية توفّر القليل من هذه الاحتياجات، ولا توجد مؤشرات عن دعم خارجي مُحتمل، فكيف يتصرف رئيس الوزراء وحكومته التي برعت في اتخاذ القرارات غير المفيدة بتصفية الخدمة المدنية وتسييسها وتغافَلت عن أهم واجباتها ومسؤولياتها في تلافي المعضلة الاقتصادية وحلِّها ..
إذا أرادت الحكومة اللجوء للحلول الأسهل برفع الدعم من السلع الذي يبلغ أكثر من نصف الاحتياج المطلوب، (وهي تمهد لذلك)، فإنها تكون قد دخلت إلى النفق المظلم المُغلَق من الاتجاهيْن، فلا هي تتقدّم للأمام لتخرج ولا تستطيع التراجُع للخلف لتخرُج من ورطتها، فلماذا تُعقّد الحكومةُ أوضاعَها وتصنع أزمَتها السياسية، وهي غير مُستعدّة ولا مُنتبِهة لأزمتها الاقتصادية؟