هل قرأ حمدوك وحكومتُه التقارير..؟
قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترمب بتمديد حالة الطوارئ الأمريكية المُتعلّقة بالسودان، وما يتّصل بها من إجراءات، ثم أردفه بتقرير الخارجية الأمريكية أمس الأول حول الدول الراعية للإرهاب، وتُمثِّل تهديداً للولايات المتحدة ومنها السودان، ينبغي أن يُوضَع كل ذلك في الإطار الصحيح، بوصفِهما تطوُّريْن يقطعان الطريق أمام رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وكان مأمولاً من الحكومة الحالية، أن تنجح في مساعيها وسط إرهاصات مُسبّقة وتفاهُم مع واشنطون، في شطب اسم السودان من القائمة الأمريكية، وتخليص البلاد من عقابيل وقيود لازَمتْها لسنوات طويلة، ونحن لا نلوم الحكومة ولا قبلها المجلس العسكري الانتقالي في شيء، لأنهما لم يدخُلا حتى اللحظة في حوار حقيقي مع الطرف الأمريكي لطي هذا الملف والتفاهُم على كيفية تجاوُزه، بما يُمهِّد الطريق لاندماج السودان من جديد في الأسرة الدولية ولربما تُعفَى ديونُه، ويحصل على القروض والمِنَح والمساعدات التي يحتاجها لمعالجة أوضاعه الاقتصادية، وبدء مشروعات النهضة والتنمية وتطوير الخدمات، وجذب الاستثمارات الخارجية.
أمَّا لماذا لم تبدأ الحكومة الحالية في الحوار مع الإدارة الأمريكية من حيث انتهى النظام السابق؟ فهو سؤال يحتاج إلى إجابة، لأن الحوار في هذه المسألة المُهمّة كان قد وصل إلى أشواط شِبه ختامية، وليس صحيحاً ما يُقال في وسائل الإعلام عن حجم التعويضات عن حادثتْي تفجير سفارتْي الولايات المتحدة في نيروبي ودار السلام في السابع من أغسطس 1998، التي راح ضحيّتها (224) شخصاً بينهم (12) أمريكياً. ومعلوم أن الإدارة الأمريكية وأسر الضّحايا قد رفعَت قضية في مُواجهة السودان أمام المحاكم الأمريكية، وصدر فيها حُكم بالتعويض ثُم تَمّ تخفيضه بعد إلغاء محكمة الاستئناف جزءاً منه، ولا يزال السجال القضائي جارياً، بينما انخرطت الخرطوم وواشنطون لسنوات طويلة في حوار ثنائي بغرض تسوية القضية والتفاهُم على كيفية حلّها.
لو سعَت حكومة السيدة حمدوك إلى ملفات وزارة الخارجية أو طلبت معلومات من الأجهزة الأمنية والاستخبارية، وعكفت وزيرة الخارجية على قراءة ومراجعة تقارير سفارتنا في العاصمة الأمريكية، ثُمّ تمَّ تلخيص هذه التقارير للسيد رئيس الوزراء الانتقالي، لكان الأداء الحكومي أفضل من ما نراه اليوم، ولجاءت الإفادات الصحفية لوزيري الخارجية والمالية، وحتى رئيس الوزراء نفسه أكثر واقعيةً وقُرباً من الحقيقة.
ففي خلال السنوات الماضية، كان هناك حوار يجري عبر مسار واضِح بين الخرطوم وواشنطون للتفاهُم في قضية تفجيرات نيروبي ودار السلام والمُدمِّرة كول، للبحث عن صيغة مقبولة لدى الطرفين تُنهِي حالة الخلاف، وسار الحوار بخطوات متقدمة انتهى إلى عُقدة واحدة هي حجم التعويضات التي ستُدفَع بعد أنْ وضح أنَّ التُّهمة التي ألصِقتْ بالسودان، وصَدَرت بها إدانة من المحكمة الأمريكية لا يُمكِن إلغاؤها أو تجاهُلها.
في هذا السياق، كانت جولات الحوار خاصة في الفترة التي سبقت نهاية حكم الرئيس البشير، عبر الخارجية والسفارة في واشنطون وموفدين من جهاز الأمن والمخابرات سابقاً، قد توصّلت إلى صِيغتيْن كانتا تبدوان أقرب للقبول والمُوافَقة، الأولى أن مبدأ التعويضات الذي ستُقرّه لجنتا الحوار المشتركة سيكون فيْصلاً ومقبولاً، والثانية هي حجم التعويض الذي سيُدفَع مُقابل القتيل أو تعويض الجرحى، وقدّم الجانب الأمريكي في الخُلاصة النهائية، وعند المحطة التي توقّف فيها الحوار، مقترحاً بتسوية التعويضات وِفْق ما تمّ الاتفاق عليه في قضية تعويضات ضحايا طائرة لوكربي (طائرة خطوط بان أمريكان) عام 1988 التي اتُّهِمت بها ليبيا، وَوُضِعت في قائمة الدول الراعية للإرهاب وفُرِض عليها حصار جويٍّ استمرّ عشر سنوات، ودفعت ليبيا تعويضات بلغت 2,7 مليار دولار لعدد الضحايا الأمريكيين الـ (170) راكباً من جُملة 256 قتيلاً ليسوا كلهم من الأمريكيين.
رأى الجانب الأمريكي في آخر مراحِل الحوار مع الجانب السوداني، أن تُعتَمد صيغة وفئات تعويضات لوكربي بالنسبة للقتلى والجرحى الأمريكيين، وتُعتَمد تعويضات أخرى للأسر الأمريكية التي تضرَّرت نفسياً ومعنوياً من فقدان ذويها أو إصابتهم إصابات سبَّبت إعاقات مُزمِنة، بينما اقترح الأمريكيون (يا للتفرقة) تعويضات أقل للجنسيات الأخرى خاصة الكينيين والتنزانيين الذين قُتلوا في التفجيريْن تصِل إلى أقل من نصف المبلغ الذي سيُدفَع مقابل القتيل أو المصاب الأمريكي ..!
وحسب المُتابَعات، قد يكون المبلغ الذي سيُدفَع مقابل الضحايا إذا كان السودان قد قِبل هذه الصيغة ما بين (400- 450) مليون دولار، بينما سيكون نصفه تقريباً يُدفع تعويضاً للجنسيات الأخرى.. وبالطبع كان الحوار سيستمر لولا توقُّفه للتطوُّرات التي حدثت في السودان، وليت الحكومة الحالية عندما تسلّمت مهامَها بدأت من هذه النقطة لإظهار الجِدّية والتفاهُم في إنهاء هذا الملف الشائك، لكن لم يحدُث ذلك، وسيكون علينا الانتظار عاماً آخر، وهي مدة تجديد إعلان الطوارئ، إلا إذا تطوّرت الأمور مرة أخرى وفُتِحت نافذة للحوار، وقرّرت الإدارة الأمريكية أن تُنهِي وجود السودان في قائمتها.