شهد يوم أمس وِقفة احتجاجية أمام مجلس الوزراء نظّمتها أُسر المعتقلين السياسيين من رموز النظام السابق المودَعِين في السجن منذ أبريل الماضي، وتمّ تسليم مُذكّرة لرئيس الوزراء للمطالبة بإطلاق سراحهم فوراً أو تقديمهم للمحاكمة العادلة إن كانت هناك تهم ودعاوى قضائية في مواجهتهم، وهي ليست المرة الأولى، لقد سبقتها وقفات أمام المحكمة الدستورية.
ويفتح النداءُ المُتكّرر والمستمر والوقفات الاحتجاجية الباب واسعاً لمناقشة هادئة وعميقة حول جدوى اعتقال الموجودين في سجن كوبر من رموز النظام السابق؟ وهل يتّسق ذلك مع صحيح القانون والوثيقة الدستورية التي تحكم الفترة الانتقالية، وما أكدته من ضوابط وحقوق أساسية تستوجب مراعاتها؟ وهل هناك مسوغات قانونية متوافِقة مع قانون الطوارئ وحماية السلامة العامة الساري المفعول وقانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م…؟
الناظر للوهلة الأولى يظُن أن طبيعة القبض على المُعتقلين تمّت بطريقة قانونية صحيحة، ونفّذها رجال القانون من الشرطة أو الأمن بأمر النيابة أو محكمة، فوِفقاً لأحكام القانون الجنائي وقانون الطوارئ فإن القبض عليهم من أساسه لم يتم مُتوافِقاً مع القانونيْن، إذ أن القبض تمّ بواسطة قوات لا صلة لها بأوامر القبض العادية أو الطارئة، زائداً على أن القبض نفسه مخالف لقانون الطوارئ (المادة 4) الذي يحصر الأفعال التي تتصل بالجرائم المتعلقة بإعلان الطوارئ في سبع جرائم ليس من بينها حتى اللحظة المُبرّرات التي تُقال هنا وهناك عن أسباب الاعتقال للمُعتقلين، وهي (الغزو الأجنبي أو الحصار، الخطر الحال أو الجسيم الذي يُهدد الوحدة الوطنية، الأزمة التي تُهدّد اقتصاد البلاد، الحرب أو التمرد أو القتال غير المشروع، تعطّل العمل أو المرافق العامة، الكوارث الطبيعية أو المجاعة أو الأوبئة، أي حالة تُشكّل في نظر رئيس الجمهورية تهديداً وشيك الوقوع على السودان أو السلامة العامة أو حياة المجتمع أو جزء عام منه).
فالمُعتقلون إذا لم تكن هناك شُبهة ارتكابهم أياً من الجرائم الموضّحة في المادة الرابعة من قانون الطوارئ، ولم يتم يتم اعتقالهم في الأحوال العادية أو الطارئة، ولا توجد في القانون جريمة تسمى (رمز من رموز النظام السابق)، فضلاً عن أن كثيراً منهُم لم يكونوا شاغلين عند اعتقالهم أية وظيفة سياسية أو تنفيذية في النظام السابق، ولم تتوفّر أية بيّنة حتى الآن من المحامي العام أو أي جهة عدلية أخرى تُثبت تورّطهم في جريمة من الجرائم المُتّصلة بإعلان الطوارئ وأي حالة من أحوالها، ولا توجد جرائم جنائية نُسِبت إليهم خلال هذه الفترة التي قضوها في السجن، فإن الاعتقال بهذه الكيفية التي تمّ بها واستمرار حبسهم، يصبح اعتقالاً سياسياً محضاً ينبغي التعامُل معه على هذه التوصيف والتعريف.
وتُعَد مُخالفات أمر الاعتقال للوثيقة الدستورية النافذة الآن أبلغ دليل على بطلان استمراره، وعدم مشروعية التحجُّج بأية مبررات أخرى بشأن وضعهم الحالي، ففي مواد الوثيقة الدستورية كالمادة (41) التي تنص صراحة على كفالة الحقوق الأساسية وعدم الانتقاص منها، ومنها الحق في المحاكمة العادلة، والمادة (52) حول براءة المُتّهم حتى تثبُت الإدانة عليه، وإذا قُرِن ذلك بما سبق من قول حول حجية الطوارئ نفسها وجواز تمديدها أو تجديدها، بما جاء في الفقرات (2) و(3) من المادة (40) من الوثيقة الدستورية، وبموجبها يُعرَض إعلان الطوارئ على المجلس التشريعي للمصادقة في مدة لا تتجاوز الـ (15) يوماً من تاريخ إعلانها، فإن دستورية الإجراءات التي تتم وِفقها وبموجبها لا تجوز أو تصح كما يقول جمهور القانونيين وفقهاء الدستور.
بما أن ما يجري الآن يمكن حصره فقط في الاعتبارات والدوافع السياسية وراء الاعتقال، فإن بقاء المُعتقلين السياسيين في السجن أو إطلاق سراحهم هو قرار سياسي، لا علاقة له بالقانون، وينبغي التعامُل معه بهذه الكيفية، فالجهة التي أمرت بالاعتقال هي الجهة التي تُقرّر أمر الإفراج عنهم من عدمه. ويبقى الجدل حول دستورية الاعتقال أو قانُونيّتِه هو مجال آخر يخوض فيه أهل القانون، لكن الواضح أن السياسة وتقديراتها وظروفها ومناخها هو الذي يُقرّر في شأن المُعتقلين إن لم تُقدَّم بيّنات واضحة وقوية حول جريمة جنائية ارتبكها أحدٌ منهم..