المذاهب الأربعة وحرية الاعتقاد
في الأسبوع الماضي نشرت مقالاً بعنوان : المذهب المالكي وحرية الاعتقاد، وصدّرت المقال ببعض النصوص الشرعية الواردة في حكم المرتد عن الإسلام، ثم نقلتُ عن عدد من العلماء المحققين في المذهب المالكي في بيان أن المرتد عن الإسلام حكمه : القتل، وهو ما استقر عليه التشريع الإسلامي، واستجاب له الموفقون ممن رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولاً.
وإتماماً للفائدة، رأيت أن أعرض ذات الموضوع (حرية الاعتقاد) على بقية المذاهب الأربعة بما فيها المذهب المالكي، حيث أضفت بعض النقول التي لم أذكرها في المقال السابق.
في كتاب (الإجماع) للإمام ابن المنذر ـ رحمه الله تعالى ـ أنه قال: «وأجمع أهل العلم على أن شهادة شاهدين يجب قبولهما على الارتداد، ويُقتل المرتد بشهادتهما إن لم يرجع إلى الإسلام».
ومن المناسب الإشارة إلى حكم (الردة) وإثبات حد المرتد في (المذاهب الأربعة)..
في المذهب الحنفي ـ كما في حاشية ابن عابدين ـ قال: «من ارتد عرض عليه الحاكم الإسلام استحباباً على المذهب لبلوغه الدعوة، وتُكشف شبهته بياناً لثمرة العرض، ويُحبس وجوباً وقيل ندباً ثلاثة أيام يُعرض عليه الإسلام في كل يوم منها وإلا قتله من ساعته..» إلى أن قال: «فإن أسلم فبها وإلا قُتل لحديث: مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ».
وأما المذهب المالكي وهو المنتشر في بلادنا وما جاورها من بلاد، فقد روى الإمام مالك في موطئه في كتاب (القضاء) باب: القضاء فيمن ارتد عن الإسلام، روى ـ رحمه الله ـ حديث: «مَنْ غَيَّرَ دِينَهُ فَاضْرِبُوا عُنُقَهُ».
وقال الإمام مالك ـ رحمه الله تعالى: «وَأَمَّا مَنْ خَرَجَ مِنَ الإِسْلاَمِ إِلَى غَيْرِهِ وَأَظْهَرَ ذَلِكَ فَإِنَّهُ يُسْتَتَابُ فَإِنْ تَابَ وَإِلاَّ قُتِلَ». ومن كتاب الأقضية الثاني
وفي كتاب (البيان والتحصيل) لابن رشد بيان حكم المرتد من دين الإسلام إلى دين النصرانية): (سئل مالك عن المسلم يرتد عن الإسلام فيعرض عليه الإسلام فيسلم أترى عليه حداً فيما صنع من ارتداده عن الإسلام إلى الكفر ؟ فقال: لا أرى عليه حداً إن رجع إلى الإسلام، إنما كان عليه القتل لو ثبت على النصرانية، فأما إذا رجع إلى الإسلام فلا شيء عليه). وفي نفس الكتاب قال: (قال محمد بن رشد: هذا أمر متفق عليه في المذهب أن المرتد المظهر الكفر يستتاب).
ويقول حافظ المشرق الإمام ابن عبد البر المالكي: (ومن ارتد عن الإسلام استتيب ثلاثاً بعد أخذه فإن تاب وإلا قتل وقتله أن تضرب عنقه. والرجال والنساء في ذلك سواء ولو كانوا جماعة ارتدوا وامتنعوا قوتلوا وإن أخذوا قتلوا فإن أخذوا وقد قتلوا الأنفس وأخذوا الأموال طولبوا بذلك كله وإن أرادوا أن يقروا على أن يؤدوا الجزية لم يقبل ذلك منهم ولا يقبل منهم الإسلام أو القتل ومن قتل منهم أو مات على ردته لم يرثه ورثته وكان ماله فيئاً لجماعة المسلمين).
وقال ابن بطال المالكي في شرحه على صحيح البخاري: (ولم يختلف الصحابة في استتابة المرتد، فكأنهم فهموا من قوله (صلى الله عليه وسلم): (من بدل دينه فاقتلوه)، أن المراد بذلك إذا لم يتب) وقال: (ولفظ (من) يصلح للذكر والأنثى فهو عموم يدخل فيه الرجال والنساء؛ لأنه (صلى الله عليه وسلم) لم يخص امرأة من رجل . قال ابن المنذر: وإذا كان الكفر من أعظم الذنوب وأجل جُرم اجترمه المسلمون من الرجال والنساء، ولله أحكام فى كتابه، وحدود دون الكفر ألزمها عباده، منها الزنا والسرقة وشرب الخمر وحد القذف والقصاص، وكانت الأحكام والحدود التي هي دون الارتداد لازمة للرجال والنساء مع عموم قوله (صلى الله عليه وسلم): (من بدل دينه فاقتلوه) فكيف يجوز أن يفرق أحد بين أعظم الذنوب فيطرحه عن النساء ويلزمهن ما دون ذلك؟ هذا غلط بَيِّن).
وقال الشيخ محمد المختار الشنقيطي في شرحه لسنن الترمذي: (ومن أمثلة هذه المسألة ما ثبت في الحديث الصحيح عن ابن عباس – رضي الله عنهما – أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من بدل دينه فاقتلوه) فدل هذا الحديث على أن المرتد يقتل، سواءً كان رجلاً أو كان امرأة؛ لأن صيغة “مَنْ” تعتبر من صيغ العموم، ومن هنا قالوا: إن المرأة إذا ارتدت فإنها تقتل).
وأما حـد الـردة في المذهب الشافعـي فقد ورد عن الإمام الشافعي نفسه ـ رحمه الله ـ أنه قال في كتابه (الأم): «وحكم الله عز وجل فيمن لم يسلم من المشركين وما أباح ـ جل ثناؤه ـ من أموالهم، ثم حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم في القتل بالكفر بعد الإيمان يشبه ـ والله تعالى أعلم ـ أن يكون إذا حقن الدم بالإيمان، ثم أباحه بالخروج منه أن يكون حكمه حكم الذي لم يزل كافراً محارباً وأكبر منه…» إلى أن قال ـ رحمه الله تعالى: «والمرتد به أكبر حكماً من الذي لم يزل مشركاً». وجاء في (روضة الطالبين) للإمام النووي الشافعي ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: «في حكم الردة أحكامها كثيرة….» إلى أن قال: «أما نفسه فمهدرة فيجب قتله إن لم يتب، سواءً انتقل إلى دين أهل كتاب أو لا، حراً كان أو عبداً».
وقال النووي في شرحه على صحيح مسلم: (قَوْله فِي الْيَهُودِيّ الَّذِي أَسْلَمَ: (ثُمَّ اِرْتَدَّ فَقَالَ – يعني معاذ بن جبل رضي الله عنه : لَا أَجْلِس حَتَّى يُقْتَل فَأَمَرَ بِهِ فَقُتِلَ) فِيهِ: وُجُوب قَتْل الْمُرْتَدّ، وَقَدْ أَجْمَعُوا عَلَى قَتْله).
وأما الحنابلة فقد جاء في كتاب (الفروع) لابن مفلح ـ رحمه الله تعالى ـ قوله: «فمن ارتد مكلفاً مختاراً رجلاً أو امرأة دُعي واُستتيب ثلاثة أيام، وينبغي أن يضيق عليه ويُحبس فإن أصر قُتل بسيف، ولا يجوز أخذ فداء عنه؛ لأن كفره أغلظ» انتهى كلامه.
وقد أقام أئمة الإسلام في عهود سالفة حد الردة على المرتدين وعلى سبيل المثال لا الحصر: فقد قتل الحلّاج بإجماع علماء وفقهاء عصره ووقته لزندقته وادعائه الحلول في الله تعالى والعياذ بالله وما ترتب على ذلك من أعماله الشنيعة واعتقاداته القبيحة وقُتل محمد بن سعيد المصلوب وشاكر الذي كان رأساً في الزندقة والجعد بن درهم الذي أنكر تكليم الله لموسى واتخاذه إبراهيم خليلاً.. وغيرهم ممن لا يعدون ولا يحصون إلا بكلفة.. وقد تقدّم في صدر المقال خبر إقامة أبي بكر الصديق حد الردة على امرأة ارتدت وما فعله معاذ وأبو موسى بالمرتد ولا يخفى ما قام به علي رضي الله عنهم جميعاً عندما حرّق من غلوا فيه وادعوا ألوهيته.
وكما يقال: لو سكت من لا يعلم لقلَّ الخلاف.. فليسكت من لا يعلم.. ومن كان لديه حجة شرعية فليوردها، وإلا فليحسنوا السكوت والإنصات.. وليدعوا الأمر لأهله.. ولنتق الله جميعاً في دين الله تعالى ولا نقبل نفي الأحكام الشرعية الثابتة، فإن ذلك لموبقة عظيمة يترتب عليها وعيد مخيف.. كما أن مسّ ثوابت المسلمين والتشكيك في موروثات وأعراف المجتمع السليمة يتسبب في القيل والقال ويشعل الفتن وربما يقود إلى الهرج والمرج، ورحم الله امرءاً عرف قدر نفسه.